مفهوم القضية
بسم الله الرحمن الرحيم
في مبادي التصديق
باب القضايا وأحكامها
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومحمد وعلى آله وصحبه أجمعين، نواصل إن شاء الله تعالى دروس المنطق بعد هذا الانقطاع الطويل، ونرجو الله تعالى أن يمنّ علينا بإتمامها، إنه على الأعظم من ذلك قدير وبالإجابة جدير. اللهمّ آمين.
القضية، أيها الطالب الذكيّ منّ الله تعالى عليك بالفهم، وأنار قلبك بالعلم، كقولنا زيد شاعرٌ هي قول يصح أن يقال لقائله أنت صادق فيه أو كاذب. والقول وهو المرّكب التامّ: لفظيّ ونفسيّ كما تعلمت في علم الكلام. وعليه فالقضية إما لفظيّة أي ملفوظة أو عقليّة أي معقولة. وهما مشتركان في جنس واحد وهو القول، إذ كلاهما من مصاديقه، وهو مقول عليهما في جواب ما هو بحسب الشركة فقط فيكون جنساً لهما، كما عرفته في باب المعرفات ومباديها، فلا نطيل عليك، إذ في ثقتنا بجهدك وفهمك إن شاء الله الكفاية. وها قد علمنا أن القضية تارة تطلق على الملفوظ كالمثال السابق وتارة على المعقول وهو المعنى الذي عبرنا عنه بلفظنا زيد شاعر.
وسنذكر الآن إن شاء الله ما تضمنه التعريف من القيود التي تشكّل فصل القضية، وتمّ لنا معها تعريفها فتصوُّرها. فقولنا يصح أن يصدّق قائله أو يكذّب يخرج به المركبات الإنشائية سواء كانت طلبيّة كالأمر والنهي والنداء والسؤال ونحوها، أو غير طلبيّة كالقسم وأفعال المدح والذمّ وصيغ العقود كبعت واشتريت فإن كلّ مركب من هذه المركبات ليس بقضيّة بل هو من التصورات التي لا حكم معها، فلها حكم المفردات عند المناطقة. وإن كان كلّ مركب كلاماً عند النحاة فلا يلزم منه أن يكون قضية عند أهل هذا الفنّ.
وكذا يخرج بقيد الصدق والكذب المركبات التقييدية بالوصف أو الإضافة كقولنا زيد الشاعر، وقولنا الحيوان الناطق، ورامي الحجارة. فكلّ ذلك عار عن النسبة الخبرية التي هي مورد التصديق والتكذيب، فافهم ذلك واعتن بحفظه.
فصدق القول وكذبه مطابقة حكمه للواقع وعدمها، ولا حكم كما ترى في أي من الإنشائيات والتقييديات. لأن الحكم إخبار عن الواقع في نفس الأمر بمنتسبين بنسبة خبريّة تامة، ويسمى هذان المنتسبان طرفي النسبة، والموضوع والمحمول أيضاً، والمحكوم عليه وبه كذلك. وتسمى هذه النسبة الخبرية بالنسبة الحكميّة لأنها مورد الحكم. وهي ليست بمتحققة في الإنشائيات والتقييديات كما تكلمنا عليه مرة في الفرق بين المفرد والمركب. والذكي يلحظ أن غير المركبات الخبريّة ليس مخبرة عن الواقع في نفس الأمر. ويسمى إخبار الواقع أداء له، ولا أداء في الإنشائيات والتقييديات كما ترى.
فتحصل عندك إن شاء الله أن القضية قول مركب تام أي يحسن السكوت عليه يحتمل الصدق أو الكذب. وعرفت أن لها طرفين يسمى الأول منهما موضوعاً والثاني محمولاً. وهما المعبر عنهما في النحو بالمبتدأ والخبر. وفيها نسبة حكميّة. تكلمنا عن معناها في الدروس السابقة بما يكفي والله أعلم.
وبقي قبل أن نغادرك على وعد بأن نتكلّم في قسميها الحمليّ والشرطيّ والتفصيل في ذلك، أن نذكر لك فائدة عزيزة استخرجتها من زوايا الكتب. وهي أن القضية تسمى خبراً من حيث اشتمالها على الصدق والكذب، ومن حيث إفادتها للحكم إخباراً، ومن حيث اشتمالها على الحكم قضيّة، لأن القضية مأخوذ من القضاء بمعنى الحكم، ولعلها من تسمية الكل باسم الجزء لما أن القضية تتضمن الحكم، وتسمى من حيث كونها جزء الدليل مقدّمة، ومن حيث تطلب بالدليل مطلوباً، ومن حيث تحصّل بالدليل نتيجة، ومن حيث إنها تقع في العلوم ويسأل عنها مسألة، فالذات واحدة واختلاف العبارات عليها باختلاف الاعتبار. ولم نرد أن نطيل فنثقل، بعد غيبة طالت.
ثم بقي لنا رجاء دعائكم كان الله في عونه، ثم دعائي اللهمّ صلّ على سيدنا محمد ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون أملاً في القبول.
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين