المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح جمع الجوامع-2: الكلام في المقدمات



جلال علي الجهاني
07-05-2004, 21:50
(الكلام في المقدّمات)


افتتحها بتعريف أصول الفقه ليتصوّره طالبه بما يضبط مسائله الكثيرة ليكون على بصيرةٍ في تطلّبها، إذ لو تطلبها قبل ضبطها لم يأمن فوات ما يرجّيه وضياع الوقت فيما لا يعنيه، فقال:


(أصول الفقه) أي الفنّ المسمّى بهذا اللقب المشعر بمدحه بابتناء الفقه عليه إذ الأصل ما يبتني عليه غيره (دلائل الفقه الإجماليّة) أي غير المعيّنة كمطلق الأمر والنّهي وفعل النّبيّ والإجماع والقياس والاستصحاب، المبحوث عن أوّلها بأنّه للوجوب حقيقةً والثّاني بأنّه للحرمة كذلك الباقي بأنّها حججٌ وغير ذلك ممّا يأتي مع ما يتعلق به في الكتب الخمسة.


فخرج بالدّلائل التّفصيليّة نحو ﴿أقيموا الصّلاة﴾ ﴿ولا تقربوا الزّنا﴾ وصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة كما أخرجه الشّيخان والإجماع على أن لبنت الابن السّدس مع بنت الصّلب حيث لا عاصب لهما وقياس الأرز على البرّ في امتناع بيع بعضه ببعضٍ إلا مثلا بمثلٍ يدًا بيدٍ كما رواه مسلمٌ واستصحاب الطّهارة لمن شكّ في بقائها فليست أصول الفقه وإنّما يذكر بعضها في كتبه للتّمثيل.


(وقيل) أصول الفقه (ومعرفتها) أي معرفة دلائل الفقه الإجماليّة ورجّح المصنّف الأوّل بأنّه أقرب إلى المدلول اللّغويّ، إذ الأصول لغةً الأدلة كما في تعريف جميعهم الفقه بالعلم بالأحكام لا نفسها إذ الفقه لغةً الفهم.


(والأصوليّ) أي المرء المنسوب إلى الأصول أي الملتبس به (العارف بها) أي بدلائل الفقه الإجماليّة (وبطرق استفادتها) يعني المرجّحات المذكور معظمها في الكتاب السّادس (و) بطرق (مستفيدها) يعني صفات المجتهد المذكورة في الكتاب السّابع ويعبّر عنها بشروط الاجتهاد وبالمرجحات أي بمعرفتها تستفاد دلائل الفقه أي ما يدلّ عليه من جملة دلائله التّفصيليّة عند تعارضها وبصفات المجتهد أي بقيامها بالمرء يكون مستفيدًا لتلك الدّلائل أي أهلا لاستفادتها بالمرجّحات فيستفيد الأحكام منها ولتوقّف استفادة الأحكام منها التي هي الفقه على المرجّحات.


وصفات المجتهد على الوجه السّابق ذكروها في تعريفي الأصول الموضوع لبيان ما يتوقّف عليه الفقه من أدلته لكنّ الإجماليّة كما تقدّم دون التّفصيليّة لكثرتها جدًّا ومن المرجّحات صفات المجتهد وأسقطها المصنّف كما علمت لما قاله من أنّها ليست من الأصول وإنّما تذكر في كتبه لتوقّف معرفته على معرفتها؛ لأنّها طريقٌ إليه قال وذكرها حينئذٍ في تعريف الأصوليّ كذكرهم في تعريف الفقيه ما يتوقّف عليه الفقه من شروط الاجتهاد حيث قالوا الفقيه المجتهد وهو ذو الدّرجة الوسطى عربيّةً وأصولا إلى آخر صفات المجتهد وما قالوا الفقيه العالم بالأحكام هذا كلامه الموافق لظاهر المتن في أنّ المرجّحات وصفات المجتهد طريقٌ للدّلائل الإجماليّة الذي بنى عليه ما لم يسبق إليه كما قال من إسقاطها من تعريفي الأصول وأنت خبيرٌ ممّا تقدّم بأنّها طريقٌ للدّلائل التّفصيليّة وكأنّ ذلك سرى إليه من كون التّفصيليّة جزئيّات الإجماليّة وهو مندفعٌ بأنّ توقّف التّفصيليّة على ما ذكر من حيث تفصيلها المفيد للأحكام على أنّ توقّفها على صفات المجتهد من ذلك من حيث حصولها للمرء لا معرفتها. والمعتبر في مسمّى الأصوليّ معرفتها لا حصولها كما تقدّم كلّ ذلك.


وبالجملة فظاهرٌ أنّ معرفة الدّلائل الإجماليّة المذكورة في الكتب الخمسة لا تتوقّف على معرفة شيءٍ من المرجّحات وصفات المجتهد المعقود لها الكتابان الباقيان لكونها من الأصول فالصّواب ما صنعوا من ذكرها في تعريفيه كأن يقال: أصول الفقه دلائل الفقه الإجماليّة وطرق استفادة ومستفيد جزئيّاتها، وقيل: معرفة ذلك.
ولا حاجة إلى تعريف الأصوليّ للعلم به من ذلك.


وأمّا قولهم المتقدّم: الفقيهُ المجتهد، وكذا عكسه الآتي في كتاب الاجتهاد فالمراد به بيان الماصدق، أي ما يصدق عليه الفقيه هو ما يصدق عليه المجتهد والعكس، لا بيان المفهوم وإن كان هو الأصل في التّعريف؛ لأنّ مفهومهما مختلفٌ ولا حاجة إلى ذكره للعلم به من تعريفي الفقه والاجتهاد فما تقدّم من أنّهم ما قالوا الفقيه العالم بالأحكام أي إلخ لذلك على أنّ بعضهم قاله تصريحًا بما علم التزامًا.


(والفقه العلم بالأحكام) أي بجميع النّسب التّامّة (الشّرعيّة) أي المأخوذة من الشّرع المبعوث به النّبيّ الكريم (العمليّة) أي المتعلقة بكيفيّة عملٍ قلبيٍّ أو غيره كالعلم بأنّ النّيّة في الوضوء واجبةٌ وأنّ الوتر مندوبٌ (المكتسب) ذلك العلم (من أدلتها التّفصيليّة) أي من الأدلة التّفصيليّة للأحكام

فخرج بقيد الأحكام العلم بغيرها من الذّوات والصّفات كتصوّر الإنسان والبياض

وبقيد الشّرعيّة العلم بالأحكام العقليّة والحسّيّة كالعلم بأنّ الواحد نصف الاثنين وأنّ النّار محرقةٌ

وبقيد العلميّة العلم بالأحكام الشّرعيّة العلميّة أي الاعتقاديّة كالعلم بأنّ الله واحدٌ وأنّه يرى في الآخرة

وبقيد المكتسب علم الله وجبريل والنّبيّ بما ذكر

وبقيد التّفصيليّة العلم بذلك المكتسب للخلافيّ من المقتضى والنّافي المثبت بهما ما يأخذه من الفقيه ليحفظه عن إبطال خصمه فعلمه مثلا بوجوب النّيّة في الوضوء لوجود المقتضي أو بعدم وجوب الوتر لوجود النّافي ليس من الفقه

وعبّروا عن الفقه هنا بالعلم وإن كان لظنّيّة أدلته ظنًّا كما سيأتي التّعبير به عنه في كتاب الاجتهاد؛ لأنّه ظنّ المجتهد الذي هو لقوّته قريبٌ من العلم

وكون المراد بالأحكام جميعًا لا ينافيه قول مالكٍ من أكابر الفقهاء في ستٍّ وثلاثين مسألةً من أربعين سئل عنها لا أدري؛ لأنّه متهيّئٌ للعلم بأحكامها بمعاودة النّظر، وإطلاق العلم على مثل هذا التّهيّؤ شائعٌ عرفًا يقال فلانٌ يعلم النّحو ولا يراد أنّ جميع مسائله حاضرةٌ عنده على التّفصيل بل إنّه متهيّئٌ لذلك

وما قيل من أنّ الأحكام الشّرعيّة قيدٌ واحدٌ جمع الحكم الشّرعيّ المعرّف بخطاب الله الآتي فخلاف الظّاهر وإن آل ما تقدّم في شرح كونهما قيدين كما لا يخفى.

سعيد فودة
05-09-2004, 09:07
الفرق بين المقدمة وبين المبدأ
المقدمة على نوعين
الأول: مقدمة الكتاب، والثاني: مقدمة العلم.
فمقدمة الكتاب اسم لطائفة قدمت أمام المقصود لارتباط له بها وانتفاع بها فيه سواء توقفت عليها أم لا. فمقدمة الكتاب اسم للألفاظ المخصوصة الدالة على المعاني المخصوصة.
ومقدمة العلم ما يتوقف عليه الشروع في مسائله من معرفة حده وموضوعه وغايته. فمقدمة العلم اسم للمعاني المخصوصة.
والشروع في العلم إنما يتوقف عند السعد على التصور بوجه ما والتصديق بفائدة ما، ألا ترى أن كثيرا من الطالبين يحصل كثيرا من العلوم كالنحو غيره مع الذهول عن رسمها وغايتها وتمي العلم عند الطالب لا يتوقف على بيان الموضوع، بل قد يحصل بجهات أخر. نعم تمايز العلوم في أنفسها بتمايز الموضوعات. والفرق ظاهر.
قال صاحب دستور العلماء(3/142):"المبادئ هي التي يتوقف عليها مسائل العلم، وهي إما تصورات أو تصديقات، أما التصورات فهي حدود الموضوعات وأجزاؤها وجزئياتها وأعراضها الذاتية.
وأما التصديقات فإما بينة بنفسها وتسمى علوما متعارفة، وإما غير بينة بنفسها . فإن أذعن المتعلم بها بحسن الظن على المعلم سميت أصولا موضوعة، وإن تلقاها بالإنكار والشك سميت مصادرات. "اهـ
وذكر العلامة السعد في حاشيته على الشرح العضدي أن مبادئ العلم :"ما هو المصطلح من التصورات والتصديقات التي ينبني عليها المسائل"اهـ
وقال أيضا :"جرت العادة بتصدير كتب الأصول بمباحث خارجة عن المقاصد يسمونها المبادئ تكون جزءا من الكتاب دون العلم."
ثم قال:"على أن من المبادئ ما هو جزء بالحقيقة كالتصورات والتصديقات المأخوذ منها مما منه الاستمداد، فإطلاق المبادئ على الأمور المذكورة أيضا تغليب."اهـ
ونقل الشريف الجرجاني في حاشيته على الشرح العضدي عن البعض:"أن مبادئ العلم بمعنى ما يتوقف عليه ذات الشيء المقصود منه أعني التصورات والتصديقات التي يبتنى عليها إثبات مسائله قد تعد جزءا منه، وأما إذا أطلقت على ما يتوقف عليه ذاتا أو تصورا أو شروعا –كما فعله المصنف-فليست بتمامها من أجزائه، فإن تصور الشيء ومعرفة غايته خارجان عنه."اهـ
وقال صاحب دستور العلماء في (3/217):"مقدمة العلم هي ما يتوقف عليه الشروع في مسائله، سواء توقف نفس الشروع عليه كتصوره بوجه ما والتصديق بفائدة ما، أو الشروع على مجه البصيرة كمعرفته برسمه والتصديق بفائته المترتبة عليه المعتدة بها بالقياس إلى المشقة عند الشارع. والتصديق بموضوعية موضوعه وغير ذلك من الرؤوس الثمانية المذكورة في آخر تهذيب المنطق.
ومقدمة الكتاب: طائفة من الكلام تذكر قبل الشروع في مقاصد لارتباطها به ونفعها فيها سواء توقف عليه الشروع أو لا.
والكتاب إما عبارة عن الألفاظ أو المجموع منهما، والذكر ليس بمختص باللفظ كما وهم، فإن كلا من اللفظ والمعنى يوصف بالذكر. وفي الكتاب احتمالات أخر لكنها لا تخلو عن تكلف وارتكاب مجاز وإنما ذكر مقدمة الكتاب العلامة التفتازاني في المطول ولهذا قال السيد السند رحمه الله تعالى :هذا اصطلاح جديد أي غير مذكور في كلام المصنفين لا صراحة ولا إشارة بأن يفهم من إطلاقاتهم.
ولما أثبت مقدمة الكتاب اندفع الإشكال عن كلام المصنفين في أوائل كتبهم مقدمة في تعريف العلم وغايته وموضوعه. وتحرير الإشكال أن الأمور الثلاثة المذكورة عين المقدمة العلم فيلزم كون الشيء ظرفا لنفسه، وتقرير الدفع أن المحذور يلزم لو لم يثبت إلا مقدمة، ولما ثبت مقدمة الكتاب أيضا اندفع ذلك المحذور، لأنا نقول المراد بالمقدمة مقدمة الكتاب وتلك الأمور إنما هي مقدمة العلم ، فمقدمة العلم ظرف لمقدمة الكتاب، والمعنى أن مقدمة الكتاب في بيان مقدمة العلم، وإن أردت ما عليه فارجع إلى حواشي السيد السند قدس سره على المطول.
ولا يخفى على من له مسكة إن ما ذكره السيد السند قدس سره من أن هذا اصطلاح جديد ليس بشيء لأن إطلاق المقدمة على طائفة من الكلام إلى آخره يفهم من إطلاقات الكتاب التي ذكرناها في تحقيقه، فذلك الإطلاق ثابت فيما بينهم فافهم واحفظ. "اهـ

قال الإمام العلامة التفتازاني في الشرح المطول:"والمقدمة مأخوذة من مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منها من قدم بمعنى تقدم، يقال مقدمة العلم لما يتوقف عليه مسائله كمعرفة حده وغايته وموضوعه. ومقدمة الكتاب لطائفة من كلامه قدمت أمام المقصود لارتباط له بها وانتفاع بها فيه سواء توقف عليها أم لا.
ولعدم فرق البعض بين مقدمة العلم ومقدمة الكتاب أشكل عليهم أمران احتاجوا في التفصي عنهما إلى تكلف. أحدهما بيان توقف مسائل العلوم الثلاثة على ما ذكر في هذه المقدمة....الخ"اهـ
قال الشريف الجرجاني في حاشيته عليه:" أثبت في هذا الكتاب مقدمة العلم وفسرها بما هو المشهور في الكتب ومقدمة الكتاب وهو اصطلاح جديد لا نقل عليه من كلامهم ولا هو مفهوم من إطلاقاتهم.
والذي حداه إلى ذلك أمران كما يشهد به عبارته
أحدهما: دفع الإشكال عما وقع في أوائل الكتب من قولهم مقدمة في تعريف العلم وغايته وموضوعه، فإنه لو لم يثبت إلا مقدمة العلم لزم كون الشيء ظرفا لنفسه، فإن هذه الأمور عين مقدمة العلم، وإذا جعل مقدمة العلم ظرفا لمقدمة الكتاب يندفع الإشكال.
وثانيهما: أن يستغني بذلك عن بيان توقف مسائل العلوم الثلاثة على ما ذكره المصنف في هذه المقدمة من بيان الفصاحة والبلاغة وما يتصل به مع أن السكاكي أورده في آخر علمي المعاني والبيان ، وإذا حمل هذه المقدمة على مقدمة الكتاب بالمعنى الذي فسرها الشارح به، لم يحتج إلى بيان التوقف. فظهر صحة التقديم والتأخير.
واعلم أن الشارح ذكر في شرحه للرسالة الشمسية أن مقدمة الكتاب ما يذكر فيه قبل الشروع في المقاصد لارتباطها به . وهي ههنا ثلاثة أمور.
الأول: بيان الحاجة إلى الميزان، ثم قال :"وأما ما ذهب إليه الشارحون من أن المراد بالمقدمة ههنا ما يتوقف عليه الشروع في العلم ففيه نظر، لإمكان الشروع بدون هذه الأمور الثلاثة. وما ذكروه من البصيرة فليس أمرا مضبوطا يقتضي الاقتصار على ما ذكروه".هذا كلامه.
ويظهر لك منه أن ما جعله في هذا الكتاب مقدمة العلم من الحد والموضوع والغاية جعله في شرح الرسالة مقدمة الكتاب بالتفسير الذي ذكره ههنا. ونفى توقف الشروع في العلم على هذه الأمور فحينئذلا يثبت عنده إلا مقدمة الكتاب فقط، ويحتاج في توجيه قولهم المقدمة في حد العلم وغايته وموضوعه إلى تكلف، لأن هذه الأمور عين مقدمة الكتاب بالمعنى المذكور، كما احتاج إليه من أثبت مقدمة العلم فقط على ما بينه.
وإن شئت زيادة توضيح للحال فاستمع لما يتلى عليك من المقال:
فنقول:
إن أسماء العلوم المدونة كالصرف والنحو والمعاني وغيرها قد تطلف على معلومات مخصوصة وقد تطلق على إدراكاتها كما ينبئ عنه مواضع استعمالاتها. ثم إن كل علم منها بالمعنى الأول عبارة عن معان مخصوصة تصديقية وتصورية. والشروع في تحصيل تلك المعاني وإدراكاتها على بصيرة يتوقف كما هو المشهور على إدراك معان أخر تصورية وتصديقية، فإذا أريد أن يعبر بالألفاظ عن المعاني الأولى والثانية تعليما وتفهيما، وجب تقديم الألفاظ الدالة على المعاني الثانية الموقوف عليها، على الألفاظ الدالة على المعاني الأولى المقصودة، ليفهم الموقوف عليها أولا، فيشرع في إدراك المقاصد ثانيا. وكذا إذا أريد الدلالة علهما بالنقوش الدالة على المعاني بتوسط العبارات أعني الكتابة كان تقديم ما بإزاء الموقوف عليها واجبا."

سعيد فودة
08-09-2004, 23:33
فائدة ذكر التعريف

العلماء يفتتحون كتبهم عادة بذكر تعريف العلم الذي يؤلفون فيه. وسوف نبين ههنا فائدة ذكر التعريف لطالب العلم.
وإنما قلنا إن الفائدة إنما هي لطالب العلم، لأن الكتاب أصلا إنما يؤلف لفائدة طالب العلم، وليس للعالم فيه، ولذلك فالعالم الذي يؤلف الكتاب يراعي في تأليفه فائدة القارئ والطالب لهذا العلم، فيحاول أن يقرب إليه العلم تقريبا، فيتخذ من الوسائل ما يمكنه بحيث لا يفضي إلى خلاف مقصوده من الخلل والاضطراب. ومن هذه الوسائل في التفهيم والتقريب ذكر التعريف.
قال العلامة المحلي:" افتتحها بتعريف أصول الفقه ليتصوّره طالبه بما يضبط مسائله الكثيرة ليكون على بصيرةٍ في تطلّبها، إذ لو تطلبها قبل ضبطها لم يأمن فوات ما يرجّيه وضياع الوقت فيما لا يعنيه"اهـ

فأجمل فائدة التعريف
أولا: بأن الطالب يتصور العلم إذا تصور التعريف بوجه كلي، وهذا الوجه يضبط للطالب مسائل العلم الكثيرة.
ثانيا: ليكون الطالب للعلم على بصيرة في تطلب المسائل.
وهاك شرح ذلك
أولا:
لا يخفى أن الطالب للعلم إذا تصور التعريف فإن ذلك يتضمن ولو بوجه ما تصورَ الموضوع، والعلم ينضبط بموضوعه.
وأيضا فإن التعريف يوجه الطالب إلى معرفة الغاية من العلم، ولا شك أن الطالب إذا عرف الغاية من العلم، فإنه يستطيع أن يميز المسائل ولو بوجه كلي.
وقد يجوز أن يعرف الطالب ذلك بذكر أوصاف معينة للعلم يحصل من تصورها على تصور للعلم نفسه يكفي ولو بقدر ما لضبط المسائل، وإن لم تكن تلك الأوصاف منضبطة بضوابط التعريف. ومثل عليها العلامة الشربيني بأن يقال:"موضوع أصول الفقه الأدلة الإجمالية، وغايته استخراج الأحكام."
وقال:"وهذا ليس بتعريف إذ لا يصلح أن يحمل على الفن، أعني المسائل، فالتصور لا يقتضي التعريف."اهـ
وتحصيل تصور ما عن العلم بواسطة تصورات ليست هي تعريفا له، وإن لم يستحل، إلا أن ما يستفاد من التعريف أكمل مما يستفاد منها. ولذلك قدم العلماء ذكر التعريفات وحاولوا الاهتمام بها قدر الاستطاعة، وتحقيقها كذلك، لأن مقصودهم إفادة الطالب على حسب الوسع وعلى أتم ما يمكن.
فإن اجتمع عند الطالب المعرفة بالموضوع والغاية، فإن ذلك يزيد من إمكانية ضبطه للعلم المطلوب معرفته.

ثانيا:
من المعلوم أن مسائل كل علم، إما أن تكون منحصرة في نفس الأمر، وإما ألا تكون كذلك.
فإن كانت منحصرة، فيمكن أن يعرف الطالب العلم، بمعرفة مسائله مسأله مسألة. هذا من حيث الإمكان مطلقا من غير ملاحظة عدد المسائل إن كان كثيرا أو قليلا، مقدورا عليه من كل الطلاب على اختلاف مستوياتهم أو لا.
ولكن إذا نظرنا في نفس العدد، فنقول: إما أن يكون عدد مسائل العلم المعين كثيرا وإما أن يكون قليلا، والقلة والكثرة اعتبارية كما لا يخفى.
فلو فرضنا أن مسائل علم معين عشر مسائل فقط، ولا أعتقد بوجود علم يحتوي على هذا الكم من المسائل فقط، فيمكن أن يقال إن جميع طلاب العلم قادرون على اكتسابها، مسألة مسألة ، ولكن ومع هذا، فلو تعلموا أولا التعريف لهذا العلم على الوجه الكلي ثم بعد ذلك درسوا مسائله، لكان هذا أكمل لهم.
فما بالكم إذا كانت مسائل العلوم وخاصة علم الفقه مثلا وعلم الأصول وغيرها من العلوم الشرعية محتوية على العدد الكبير من المسائل، فحينذاك يكون العلم بها عن طريق معرفتها الكلية بالتعريف أولا ثم معرفة المسائل مسألة مسألة أحرى وأولى.
وقد بين العلامة الشربيني أن مسائل علم أصول الفقه كثيرة جدا:"بحيث لا تقف على حد ، فإن مسائل العلوم متكثرة على ممر الدهور كذلك إلا اليسير كعلم الجبر والمقابلة ، ولو سلم وقوفها وأراد تصورها بأن تُعَدَّ له واحدة واحدة مع نوع تمييز كأن يقال مسائل الفن مسألة كذا ومسألة كذا، كان بعض أوقاته مصروفا في شرط الطلب الذي هو تصور المطلوب، فيصرف شطرا من الزمان إلى تحصيل الشرط فربما لا يسع باقي أزمانه تحصيل المقصود، فيفضي إلى فواته كلا أو بعضا.
فالمخلص من ذلك هو التصور بجهة الوحدة التي اعتبرها القوم، وهي وحدة الموضوع أو الغاية. والأولى أولى باعتبار أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، والغايةُ تابعة للعلوم التابعة للموضوعات، لما أنها جزء من العلوم ولم يعتبروا جهة وحدة المحمول باعتبار كون محمولات المسائل المتكثرة راجعة إليه، كما قيل محمول العلم ما ينحل إليه محمولات مسائله، لكون المقصود من العلوم بيان أحوال الموضوع والمحمولات صفات تطلب لذوات الموضوعات.
ولذا جعلوا تمايز العلوم بتمايزها. ."اهـ
ثم ذكر العلامة الشربيني أن الواحد إذا جعل معرفة المسائل بنوع من التمييز كما ذكره مقدمة وشرطا للدخول في العلم، فربما إذا صرف شطرا صالحا من وقته، دون أن يدخل إلى المقصود، أفضى به ذلك إلى الملل فينصرف بالكلية عن هذا العلم. وهذا معنى جميل جدا. وهو كما ترى صادق أيضا على المبالغة في التعريفات إلى الحدي الكبير جدا بحيث ينقضي شهور متطاولة دون أن يدخل الواحد في العلم المعين. فعلم أن المبالغة في التدقيق في التعريفات والمقدمات التي يمكن الاستغناء عنها، واجب للتعليم والإفادة.

سعيد فودة
15-09-2004, 08:02
الكلام على تعريف علم الأصول
قال العلامة المحلي: (أصول الفقه) أي الفنّ المسمّى بهذا اللقب المشعر بمدحه بابتناء الفقه عليه إذ الأصل ما يبتني عليه غيره (دلائل الفقه الإجماليّة) أي غير المعيّنة كمطلق الأمر والنّهي وفعل النّبيّ والإجماع والقياس والاستصحاب، المبحوث عن أوّلها بأنّه للوجوب حقيقةً والثّاني بأنّه للحرمة كذلك الباقي بأنّها حججٌ وغير ذلك ممّا يأتي مع ما يتعلق به في الكتب الخمسة.


فخرج بالدّلائل التّفصيليّة نحو ﴿أقيموا الصّلاة﴾ ﴿ولا تقربوا الزّنا﴾ وصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة كما أخرجه الشّيخان والإجماع على أن لبنت الابن السّدس مع بنت الصّلب حيث لا عاصب لهما وقياس الأرز على البرّ في امتناع بيع بعضه ببعضٍ إلا مثلا بمثلٍ يدًا بيدٍ كما رواه مسلمٌ واستصحاب الطّهارة لمن شكّ في بقائها فليست أصول الفقه وإنّما يذكر بعضها في كتبه للتّمثيل.


(وقيل) أصول الفقه (ومعرفتها) أي معرفة دلائل الفقه الإجماليّة ورجّح المصنّف الأوّل بأنّه أقرب إلى المدلول اللّغويّ، إذ الأصول لغةً الأدلة كما في تعريف جميعهم الفقه بالعلم بالأحكام لا نفسها إذ الفقه لغةً الفهم.


التعليق:
مصطلح أصول الفقه أصله أصله مركب إضافي، فلكل واحد من جزأيه معنى.
فالأصل في اللغة: ما ينبني عليه الشيء.
فقيل: ثم نقل في العرف لمعان من الراجح والقاعدة الكلية والدليل.
فذهب بعضهم إلى أن المراد في أصول الفقه الذي هو التركيب الإضافي : الدليل.
وقال صاحب التلويح: النقل خلاف الأصل، ولا ضرورة للعدول إليه، لأن الانبناء كما يشمل الحسيَّ كابتناء السقف على الجدار يشمل الابتناء العقلي كابتناء الحكم على دليله. فههنا يحمل على المعنى اللغوي.
وبالإضافة إلى الفقه الذي هو معنى عقلي يعلق أن الابتناء ههنا عقلي، فيكون أصول الفقه ما يبتنى هو عليه، ويستند إليه ولا معنى لمستند العلم ومبتناه إلا دليله.اهـ


وعلم الأصول يبحث في الأدلة الإجمالية، ومعنى ذلك أنه يبحث في أمور هي عبارة عن آلات يتوصل بها إلى الحكم الفقهي الجزئي، فكل مسائل الأصول يجب أن يكون من الآلات المحضة، والدليل هو الحجة المعتبرة شرعا، فيمكن أن يقال أيضا إن موضوع علم الأصول هو الحجة المعتبرة، فهو يبحث عن كل ما يمكن أن يكون حجة معتبرة شرعا للوصول إلى حكم شرعي عملي.
ويجب أن تتمحض جزئيات أصول الفقه في كونها آلات كما قلنا. والمقصود كونه آلة أنها يجب أن تكون واسطة لإنتاج الحكم الشرعي العملي الجزئي، ولا يجوز أن تتألف هي من حكم شرعي ولو كان في صورة كلية، كالقاعدة الفقهية.
فقولنا صيغة الأمر تفيد الوجوب، أمر آلي محض، وإن دخل لفظ الوجوب في هذه القاعدة، ولكنه لم يدخل متعلقا بعمل جزئي خارجي، بل كان مفاد صيغة الأمر. ولذلك لم تعتبر هذه القاعدة قاعدة فقهية. فحاصل هذه القاعدة، أن كل ما تعلق به الأمر من الأعمال فهو للوجوب. فليس الأمر متعلقا بلاصيغة بل مستفاد منها.
ولكن قول عليه الصلاة والسلام مثلا: الأعمال بالنيات، التي اتخذه الفقهاء قاعدة فقهية، يستفاد منه مباشرة أنه لا اعتداد بعمل ما إلا إذا ارتبط بالنية، فالحكم المستفاد منه متعلق بالأعمال الجزئية الخارجية، مباشرة، وإن كانت صيغته عامة. فهو يساوي في الحقيقة ما لو قلت: هذا العمل لا يصح إلا بالنية، وهذا العمل لا يصح إلا بالنية.... وهكذا.
فالفرق واضح بين القاعدة الأصولية وبين القاعدة الفقهية وسوف نزيد هذا وضوحا في تعليقاتنا التالية.
وقال العلامة الشربيني في حاشيته ص32:"ثم اعلم أن المحكوم عليه في المحصورات كما حققه الدواني والسيد الزاهد في حواشيه هو الطبيعة من حيث إنها تصلح للانطباق على الجزئيات، فلا جرم يتعدى الحكم إلى الأشخاص فالحكم عليها بالعرض . كيفوالمحكوم عليه بالحقيقة الأمر الحاصل في النفس وهو الطبيعة دون الأفراد، إلا أنه من حيث التخصيص والانطباق على الجزئيات ، وأما المحكوم عليه في الطبيعة فهو الطبيعة لا من تلك الحيثية، ولذا لا يصدق عليها إلا ما لا يتعدى إلى الأفراد كالنوعية ولذا لا تعد من مسائل العلوم لعدم كليتها، فاندفع ما قيل إن المبحوث عليه في مسائل الأصول الدلائل التفصيلية لأنها من المحصورات المحكوم فيها على الأفراد فإنه مبني لى رأي مرجوح حكاه عبد الحكيم في حاوشي القطب وأشار إليه الدواني. فتدبر. "اهـ
وهذه عبارة مفيدة جدا، حاصلها: أن الأصول وإن كان يبحث في الأدلة الكلية، إلا إنه لا يبحث عنها لذاتها، بل يبحث عنها من حيث انطباقها على أفرادها، فصح أن تكون مسائل للعلوم. وأما إذا بحث فيها من حيث ذاتها لا من حيث انطباقها، فلا تكون مسائل علم لعدم كليتها.

يتبع........

محمد ال عمر التمر
21-09-2005, 20:06
أستاذنا الفاضل سعيد فودة
والأخوة الأفاضل
لماذا توقفت مدارسة كتاب جمع الجوامع ؟

لقد طال الانتظار.

محمد ال عمر التمر
08-09-2006, 12:56
ما قولكم حفظكم الله حول اضافة الزركشي في البحر حول تعريف الاصل اصطلاحا:
1 انه التعبد: كقولهم: ايجاب الطهارة بخروج الخارج على خلاف الأصل يريدون أنه لا يُهتدى إليه بالقياس
2 الغالب في الشرع ولا يمكن ذلك إلا باستقراء موارد الشرع.
3 استمرار الحكم السابق كقولهم: الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل
4 المخرج كقول الفرضيين أصل المسألة كذا
قال د. يعقوب الباحسين: وكأنه أراد بذلك أن يستدرك على من سبقه، لكن استدراكه غير وارد لأن جميع هذه المعاني ينكن ردها إلى الأقسام المذكورة في المتن (الديل/القاعدة الكلية/الرجحان) بضرب من التأويل، فهي لا تعدو أن تكون نوعا من تشعيب الكلام وتكثيره من غير داع ومبرر فالمعاني الثلاث الأولى تدخل في مفهوم الراجح لأن كلا منها مما يحكم العقل برجحانه أما المعنى الرابع وهو المخرج فهو داخل في المعاني اللغوية للأصل.
ما رأيكم؟

حمزة أحمد عبد الرحمن
22-03-2007, 12:51
سيدي الشيخ سعيد وسيدي الشيخ جلال
الن تستكملوا المدارسة ؟؟

نزار بن علي
24-04-2009, 10:22
الحمد لله تعالى
وفقكم الله تعالى لاستكمال هذه الفوائد المهمة.
وبالمناسبة، أسأل المهتمين بجمع الجوامع وشروحه، فهل يعرف في كتب التراجم ذكر لشرح الشيخ محمد بن عبد الله السمهودي على جمع الجوامع؟ ولعل اسمه (صدح السواجع في شرح جمع الجوامع). ومما يذكر أن كتاب الشيخ السمهودي نادرة لأن جلها قد احترق في المسجد النبوي، ولم ينج إلا ما أعاد كتابته.

محمود عبد الصادق الحسّاني
02-09-2011, 11:11
هل من تكميل لهذا العمل المبارك؟

محمد علي موسى
11-09-2011, 20:41
في انتظار إكمال المدارسة