نظرات في
كتاب
المضنون الصغير
كتبه
سعيد فودة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الأنبياء وخاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،وبعد
فإنا ما دمنا في هذه الحياة، فسوف تظلُّ الحاجة إلى مراجعة ما كتبه العلماء، ونقد ما ألفه الكتاب موجودة، محتاجا إليها، فهي التي تثمر حركة الفكر، والتقدم في النظر والوعي.
ومن أهم الأمور التي يجب على المرء إدامة المراجعة فيها، علم التوحيد والعقائد، وهو العلم الي يبحث في العقائد المنسوبة إلى الدين، من حيث بيان الحق فيه من الباطل، والرد على الشبه الواردة على العقيدة الحقة، والإتيان بالادلة المؤيدة لها.
وإنَّ وظيفة الباحث في هذا العلم الشريف أن يعيد النظر في الكتب التي ألفها العلماء، وفي الكتب المنسوبة إليهم سواء كانت نسبتها صحيحة أو لا، فإن مجرد نسبة الكتب إلى أعلام العلماء تفتح الباب للترويج لهذه الكتب بما فيها من حق أو باطل.
ومن هذا الباب فإن نقد ما في تلك الكتب، وبيان مدى ما تشتمل عليه من الآراء الموافقة للصواب أو المجانبة له، يفيد في إعادة تقويم سير طلاب المعرفة وإرشادهم إلى الصواب.
ومن الكتب المنسوبة إلى بعض أعلام العلماء، كتاب المضنون الصغير المنسوب إلى الإمام الحجة الإسلام أبي حامد الغزالي عليه الرحمة والرضوان، ومن المعلوم مكانة هذا الإمام الهمام، ومدى ما يستفيده من ينسب إليه ما هو ليس له من الترويج لما فيه من آراء! فإن الثقة بهذا الإمام من الناس قد بلغت منزلة عالية بحيث صار مجرد نسبة القول إليه يستدعي من الواحد الاهتمام بالقول وإعطاءه غاية التنبه والمكانة التي يستحقها.
وهذا الكتاب من الكتب الإشكالية، فهو من الكتب المنسوبة إلى الإمام الغزالي، وفيه من الآراء ما لا يتوافق مع ما قرره الغزالي في كتبه الأخرى المتقدم منها والمتأخر! وفيه آراء تخالف ما قرره أهل السنة في علم التوحيد، ووافقهم عليها الإمام أبو حامد نفسه في كتبه.
قال الإمام الزبيدي:"اعلم أنه قد عزي إلى الشيخ أبي حامد الغزالي كتب، وقد صرح أهل التحقيق أنها ليست له، من جملتها السر المكتوم في أسرار النجوم، ونسب هذا الكتاب إلى الإمام الفخر فأنكر كونه له أيض، لكن أصحاب الروحانيين وأهل التصحيح ينقلون من أشياء كثيرة بقولهم: قال الفخر الرازي في كتابه السر المكتوم في أسرار النجوم كذا وكذا، قال صاحب تحفة الإرشاد: هو موضوع عليه. ومنها كتاب تحسين الظنون، وله فيه:
[poem font="Simplified Arabic,5,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
لا تظنوا الموت موتا إنه=لحياة وهي غايات المنى
أحسنوا الظن بربٍّ راحم=تشكروا السعي وتأتوا أمنا
ما أرى نفسي إلا أنتم=واعتقادي أنكم أنتم أنا[/poem]
وقد صرح الشيخ الأكبر أنه موضوع. ومنها كتاب النفخ والتسوية، فإنه كذلك موضوع عليه. ومنها كتاب المضنون به على غير أهله، قال ابن السبكي: ذكر ابن الصلاح أنه منسوب إليه وقال معاذ الله أن يكون له وبين سبب كونها مختلقا موضوعاً عليه، والأمر كما قال. وقد اشتمل على التصريح بقدم العالم، ونفي علم القديم بالجزئيات، وكل واحد من هذه يكفر الغزالي قائلها هو وأهل السنة أجمعون، فكيف يتصور أنه يقولها، وهو عندي، وفي المسامرة أنه من تأليف علي بن خليل السبتي، وكذلك صرح صاحب تحفة الإرشاد بأنه موضوع عليه. وقد صنف أبو بكر محمد بن عبدالله المالقي كتاباً في ردِّه، وتوفي في سنة 750هـ([1])".
وكتاب النفخ والتسوية هو نفسه المضنون الصغير، سمي بذلك لأنَّ فيه سؤالا عن النفخ والتسوية.
وقال د. عبد الكريم عثمان بعدما ذكر خلاصة ما نقلناه عن الإمام الزبيدي:"ويؤيد هذا الرأي من المحدثين الدكتور العناني وزكي مبارك. ويذهب الدكتور صليبا والدكتور عياد في تحقيقهما لكتاب المنقذ إلى رأي محيي الدين ابن عربي في أن المضنون الكبير للغزالي وأما المنحول فهو المضنون الصغير أو ما يسمَّى النفخ والتسوية، وللأستاذ دنيا مناقشة لطيفة حول هذا الموضوع في كتابه الحقيقة في نظر الغزالي([2])".
ولعل الشيخ الأكبر ابن عربي فرق بين المضنون الصغير والمضنون به على غير أهله، فنفى نسبة الأول وأبقى الثاني منسوبا إلى الغزالي، لما يجده قارئ المضنون الصغير من آراء غريبة عن الإمام الغزالي، وهي ظاهرة فيه، بل غالبة عليه، وأما المضنون به على غير أهله فالآراء التي فيه بعضها بين البطلان، وكثير منها ليس كذلك، فظهور بطلان النسبة في الأول أشد منها في الثاني. وهو مصيب في ذلك. ولكنا نكاد نجزم ببطلان نسبة الكتابين إلى الإمام الغزالي وإن كان ذلك في الصغير أقوى منه في الكبير.
وأما المناقشة اللطيفة التي ذكرها سليمان دنيا وأشار إليها د. عبدالكريم عثمان في هذا النصِّ، فهي لا تكفي لإثبات نسبة الكتاب إلى الإمام الغزالي، بل غاية ما فيها ظنون وتخمينات بأن الكتب التي وعد الغزالي بتأليفها في النفس أو في غيرها لم لا تكون هي المضنون ومدارج القدس! لا سيما وقد وجدنا فيها بعض ما يتسم به الغزالي من أنفاس. وكأن الدكتور سليمان دنيا يتوقع ممن يريد أن ينسب إلى الغزالي كتاباً أن يكتبه بأسلوب مخالف تمام لأسلوب الغزاليّ! تعلق ببعض أمور لسنا هنا في مقام بيانها ولا مناقشتها، لأن قصدنا في هذا البحث أن ننقد الكتاب نقدا داخليا بغض النظر عن آراء من نظر فيه وآراء من رأى فيه رأياً دون أن يكون ذلك الرأي معتمدا على دليل معتبر في هذا المقام.
ولذلك فقد مال بعض الباحثين كالأستاذ عبد الرحمن بدوي إلى أن هذا الكتاب من الكتب المشكوك في نسبتها إلى الغزالي. وممن أنكر نسبة كتاب المضنون به على غير أهله إلى الغزالي د. عامر النجار في كتابه "نظرات في فكر الغزالي، فقال بعدما بين بعض المسائل التي ذكرها صاحب كتاب المضنون:"وأعتقد الآن بعد هذه النظرة الشاملة نستطيع أن ننتهي إلى نتيجة مناسبة وهي أنه وضح لنا بلا أدنى شكٍّ أن المضنون به على غير أهله نسب خطأ وزورا إلى الإمام الغزاليِّ وأنه ليس من كتبه ولا من تأليفه([3])".
وسوف نحاول أن نعرض بعض أهم الآراء التي ذكرها الغزالي في هذا الكتاب، ونحللها لنرى مدى التوافق أو الاختلاف مع ما بينه وقرره في كتبه الأخرى، وسنحاول أيضا أن ننفذ في عمق هذه الآراء لنرى مدة وجاهتها في نفسها، وهل ما يعتمد عليه كاتب الكتاب قوي، وهل هذه الأدلة يليق أن يعتمد عليها واحد مثل الغزالي إذا تبين ضعفها!
فلنشرع في المقصود بلا تطويل، فالكتاب يتألف من عدة فصول كل فصل يبحث في أمر من الأمور المهمة الدقيقة، فالأول في التسوية، والثاني في النفخ، والثالث في الروح والرابع في الجوهر والخامس في نسبة الروح والسادس في صورة آدم على صورة الرحمن.
ولارتباط الكتاب بكتاب آخر منسوب إلى الغزالي أيضا، ويحمل اسما قريبا من اسم "المضنون الصغير"، وهو "المضنون به على غير أهله"، ولاشتراك هذا الكتاب أيضا مع المضنون الصغير في اختلاف الناس في نسبته إلى الغزالي، فسوف نحاول أن نجري نوع مقارنة بين الكتابين من بعض الجهات، سواء من حيث الآراء الواردة فيهما، أو من جهات أخرى سيلاحظها القارئ المحترم، لنتمكن من اختراق ما يجول حولهما.
ولا أنسى أن أذكر ههنا أن أكثر ما أورده صاحب المضنون الصغير مذكور في كتاب معارج القدس في مدارج النفس المنسوب للإمام الغزالي، وهو مشكوك في نسبته إليه كهذين الكتابين. بل إن كثيرا مما هو وارد في المضنون الصغير يوجد تقريبا بالنص في كتاب معارج القدس.
----------------------------------------
([1]) إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، السيد مرتضى الزبيدي محمد بن محمد الحسيني الزبيدي، مؤسسة التاريخ العربي، 1414هـ-1994م، (1/43-44).
([2]) سيرة الغزالي وأقوال المتقدمين فيه، دار الفكر بدمشق، ص38.
([3]) نظرات في فكر الغزالي، شركة الصفا، 1990م، ص 75.
.................يتبع إن شاء الله تعالى