علاقة الصفات بالذات
وأقوال الفرق الإسلامية
كتبه
سعيد فودة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد،
فإنَّ مما كثر النزاع فيه من مسائل الاعتقاد الصفات وعلاقتها بالذات: هل هي غير الذات أو زائدة عنها، وهل المجموع يستلزم التركيب المستلزم للافتقار والإمكان، أو لا؟ وهل كون الصفات زائدة على الذات يستلزم افتقار الذات إلىها؟ وهل تعدد الصفات يستلزم تكثر القدماء أو لا؟ وهل الصفات أجزاء للذات أو لا؟ إلى غير ذلك من مسائل اهتمَّ بها المسملمون جانبا من الاهتمام، وحصل بينهم الخلاف فيها.
وسوف أبين في هذه الصفحات باختصار أهمَّ ما دار في هذه المسائل، وألحق في آخر هذا البحث الموجز كلمات لبعض العلماء من الإسلاميين من الفرق المختلفة ليكون أمام طالب العلم مادة لدراسة المسألة من كلامهم.
تحرير محل النزاع
لقد ثبت عند أهل الإسلام بلا اختلاف بينهم، أن الله تعالى وهو واجب الوجود وهو خالق العالم، له ذات، أي إنه قائم بنفسه غير محتاج إلى محل ليقوم فيه، ووجوده غير متوقف على غيره في التحقق، وهذا هو المقصود من إثبات الذات لواجب الوجود، فلو كان غير ذات لما كان واجب الوجود، ولما كان خالقا ولا إلها.
ثم اتفق أهل الإسلام على أن هذه الذات لا بدَّ أن تكون قديمة لا أول لوجودها، ولا يجوز أن يكون وجودها مستمدا من غيرها، فهي ليست ممكنة ولا مفتقرة إلى غيرها في الوجود.
وليس في هذا الموضع مجال للنزاع أصلاً!
ولكنهم اختلفوا في جهات أخرى:
أولا: فريق منهم قال إن الذات هي عين وجود الله تعالى، وهي غير متصفة بصفات وجودية زائدة عليها لا معانٍ ولا أبعاض ولا أجزاء. فقالوا بتجرد الذات عن الصفات الوجودية مطلقاً، ولم يصفوا الله تعالى إلا بالسلوب والاعتبارات والإضافات، ولذلك أرجعوا نحوَ العلم والقدرة إلى اعتبارات للذات وإضافات ، أو إلى سلوب كسلب الجهل وسلب العجز، وهكذا. وزعموا أنَّ إثبات صفات معانٍ زائدة على الذات يستلزم إثبات قدماء كثيرين، فيكفر من أثبتها كما كفرنا النصارى، أو يلزمه التشبيه. وأحالوا أيضاً اتصافه تعالى بصفات معانٍ حادثة. وهؤلاء هم المعتزلة.
ثانيا: وقال فريق من أهل الإسلام إن الله تعالى له ذات وله صفات معانٍ زائدة على الذات، وهذه الصفات وجودية، ويتصف بالصفات الوجودية الحادثة التي لم تكن قائمة به ثم تقوم، ولذلك أجازوا اتصافه بالصفات الحادثة، وأجازوا أيضا اتصاف الله تعالى بالأبعاض والأجزاء، وسمَّوا هذه صفات أعيانٍ. فصار عندهم قسمان من الصفات
القسم الأول: صفات معانٍ، أي صفات هي معانٍ في نفسها، وهذه زائدة على الذات، وبعضها قديم كالقدرة وبعضها حادث كالإرادة والغضب والرضا وغيرها، فاتصاف الله تعالى بالغضب معناه عندهم أن هناك معنى وجوديا يقوم بالله تعالى وهذا المعنى الوجودي حادث، لم يكن الله تعالى متصفا به ثم اتصف. فالمعاني عندهم قسمان حادث وقديم.
القسم الثاني: صفات أعيان، أي صفات هي أعيان في نفسها، وهذه الصفات أبعاضٌ للذات وليست مجرد معانٍ كالعلم والقدرة، بل لها محلٌّ ولها حيز معين وليست عين الذات بل زائدة عليها ولكنها لا تنفك عنها، ونسبتها إلى الذات كنسبة الجزء إلى الكل، وقالوا إن يدّ الله تعالى ووجهه وأصابعه وعينيه من هذا القسم.
وبعضهم يصرح بذلك، وبعضهم يتهرب في ألفاظه وكلماته ويخاف تشنيع أهل السنة وغيرهم، فلا يصرح! وكأنَّ الأمر متوقف على تصريحه فقط! ولكنَّ هذا المعنى هو المفهوم من حاصل كلامهم ومجموعه ومن مواضع كثيرة على منفردة دالة على ما يريدون.
وهذه الفرقة هي المجسمة على اختلاف أقسامهم ومذاهبهم.
ثالثا: أهل السنة (الأشاعرة والماتريدية) الذين قالوا إن لله ذاتا وصفات، والصفات إما وجودية وإما غيرها (كالسلبية والنفسية)، وقد يشتق لله تعالى صفات من تعلقات وإضافات للصفات أو للذات من حيثيات معينة، كالـ(ـخالق)؛ فهو مشتق من تعلق القدرة الصلوحي أو التنجيزي بالممكنات، والعالم: مِنْ تعلُّق العلم التنجيزي بالمعلوم، والمنتقم من تعلق القدرة التنجيزي بخلق عذاب من استحق العذاب، أو القادر على ذلك، والمصور من تعلق القدرة التنجيزي بخلق صورة في الذات الممكن المخلوق، أو القادر على ذلك، أي من التعلق الصلوحيّ، وهكذا.
وأما الصفات الوجودية التي أثبتوها للذات فإنما هي معانٍ زائدة على الذات ولكنها ليس بغير الذات ولا عينها، وعرفوا المتغايرين بأنهما اللذان يمكن استقلال وجود أحدهما بمعزل عن الآخر، ولذلك قالوا نحن لم نثبت قدماء كما أثبتت النصارى، فلا يلزمنا ما لزمهم، فالنصارى أثبتوا قدماء ثلاثة كل واحد منهم مستقل بالوجود في نفسه، فصار كل واحد منهم جوهراً، فلزمهم التثليث كما نصَّ القرآن، أي تثليث القدماء، فكفروا لأنهم أثبتوا قدماء مع الله تعالى، والقديم يستحيل أن يكون مخلوقا لله، فهو معه في قدمه، فهو مستغن حقيقة عنه، وإن حاول بعضهم عدم التزام ذلك. فالعبرة في المذاهب باللازم الواضح لا باعتراف صاحب المذهب به.
وأما الصفات العينية أو صفات الأعيان التي أثبتها المجسمة (ومعنى هذا المصطلح: صفات هي في حقيقتها أعيان، أو أعيان يسميها هؤلاء بالصفات!) ، فقد اتفق أهل السنة على نفيها عن الله تعالى، وقالوا إن إثباتها يستلزم تجسيم الله تعالى، وتحديده، وهذا يستلزم كونه ممكنا، كما استلزمه في حق العالم المخلوق، فإننا استدللنا على إمكان العالم الموجب لافتقاره بمحدوديته أو تركبه من أعيان يقوم كل واحد منها بنفسه، ولا يتمُّ الكلُّ إلا بالجزء فثبت الافتقار.
ولذلك خالف أهلُ السنة قاطبة المجسمةَ في هذا الباب.
وأمَّا الصفات المعاني الحادثة التي أثبتها المجسمة كما ذكرنا، فقد وقف منها أهل السنة موقفا راسخاً فاتفقوا على نفيها، وحكموا على من أثبتها أنه أثبت التغير المستلزم للإمكان على الله تعالى ذاتا وصفاتٍ.
أهمُّ ما احتج به المعتزلة على نفي صفات المعاني:
احتجوا بأمور:
أولا: الإلزام بتكثر القدماء
إثبات الصفات الوجودية القديمة يستلزم تكثر القدماء، والقِدَمُ أخصّ صفات الإله، فهذا يستلزم تكثر الآلهة، فيكفر من أثبته كما كفر النصارى لما أثبتوا الآب والابن والروح القدس.
ثانيا: الإلزام بالتركيب المستلزم للافتقار
القول بزيادة الصفة على الذات يستلزم التركيب المستلزم للافتقار والإمكان. وهذا منافٍ للألوهية.
ثالثا: إلزام بافتقار الذات إلى الصفات والعكس
القول بأن الذات متصفة بالصفات يستلزم افتقار الذات إلى الصفة، لأن الصفة إما كمال أو نقص، ويستحيل أن تكون نقصا، فهي كمال للذات، فالذات إذن تكملت بغيرها الذي هوا لصفة.
وردَّ أهل السنة على سبيل الاختصار فقالوا:
أولا: أما ما زعمتموه من إلزامنا بتكثر القدماء، فما أثبتناه لا يستلزم تكثر القدماء، لأنا لا نثبت التغاير بين الصفات ولا بيها وبين الذات، والتغاير معنى لا يتمُّ إلا بتحقق وجود كل منفكا عن الآخر أو مستقلا عنه، ونحن نحيل ذلك، فبطل ما ألزمتمونا به من التكثر للقدماء. فبطل أيضا تشبيهنا بالنصارى، لأن النصارى لما أثبتوا الثلاثة نسبوا لكل واحد منها ما يحقِّق كونه جوهرا قائما بنفسه، وأثبتوا له القدم، فلزم بالضرورة إثبات تكثر الآلهة بخلافنا، والفرق بين واضح، وما ذكرتموه أيها المعتزلة إنما هو من باب التشنيع والإلزام بما لا يلزم، فلا يلتفت إليه ولا يعتدُّ به إلا الغافلون.
ثانياً: وأما التركيب الموجب للافتقار، فلا يتمُّ إلزامنا به إلا إذا قلنا إن الصفات مغايرة للذات في الوجود مستقلة عنها في القيام، ونحن نفينا ذلك، فلا يتحقق مفهوم الاحتياج إلا بين اثنين، ولا اثنينية إلا بين المتغايرين على الوجه الذي ذكرنا، ونحن لم نقل به بل نفيناه. فلا يلزمنا ما ألزمتمونا به من أصله.
ثالثا: وأما افتقار الذات للصفة أو العكس، فإن أردتم الاحتياج في الوجود والتحقق، فلا نسلمه لكم، وما أثبتناه لا يستلزم ذلك، وهذا هو الافتقار المستلزم للإمكان المنافي للألوهية، أما إن عبرتم عن قيام الصفة بالذات بأنها مفتقرة إليها في القيام لا في الوجود، فلا يضرُّ إثباته، مع تحرزنا عن إطلاقه من جهة الشرع لما يوهمه لفظ الافتقار، على حسب القاعدة المطردة عندنا في باب إطلاق الألفاظ الموهمة على الله تعالى. وعلى الجملة فالافتقار المستلزم للإمكان لا يثبت إلا مع التغاير، ونحن لم نثبت التغاير فلا يلزمنا ما ألزمتمونا به.
رابعا: ثم زاد أهل السنة فقالوا: قد ورد إثبات كون الله تعالى عالما وقديرا وحيا ...الخ، في الكتاب والسنة، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن نحتاج إلى إيرادها، وهذه مشتقات، وبحسب قانون اللغة فلا يثبت المشتق لذات إلا إذا قام بالذات ما به أصل الاشتقاق، فإن قلنا إن الله تعالى قدير، فالقدرة ثابتة له، والقدرة ليست سلبا ولا مجرد إضافة كما زعمتم، بل هي معنى زائد على المعنى المفهوم من الذات، وليس عين المعنى المفهوم منها، ولكن هذا التغاير في المعنى لا يستلزم التركيب الخارجي علىا لنحو الذي ذكرتموه.
فتبين لنا أنَّ ما تمسكتم به من نفي الصفات مجرد سرابٍ بقيعة، زيادة على أن ظواهر الشريعة معنا، ولا موجب لصرفها عن ظاهرها لعدم استلزام ذلك الظاهر محالاً على الله تعالى.
وزيادة على ذلك ألزم أهل السنة من نفى الصفات بالإيجاب على الله تعالى إما تصريحا كالفلاسفة منهم أو إلزاما بما يلزمهم تحقيقاً كالمعتزلة والشيعة ومن تبعهم، ولذلك أثبت المعتزلة وغيرهم الأفعال الواجبات على الله تعالى، ونفاها أهل السنة قاطبة، فلم يوجبوا عليه شيئاً، ولا شكَّ أنَّ الإيجاب على الله تعالى يستلزم نفي الاختيار فيما تم به الإيجاب، ولذلك اتفق نفاة الصفات المعاني على نفي الإرادة القديمة، وأثبتوا الإرادة حادثة أو نفوها من أصلها، أو أرجعوها إما إلى العلم أو الكلام، وهو نفي لها في الحقيقة.
وأما المجسمة فخلافهم في أمرين:
الأمر الأول: إثبات الصفات المعاني الوجودية الحادثة القائمة في ذات الله تعالى.
واحتجوا على ذلك ببعض ظواهر النصوص الشرعية وتمسكوا بها زاعمين أنها صريحة في إثبات ما توهموه، فقالوا: لما قال الله تعالى في كتابه العزيز إنه يغضب ويفرح وينتقم ويتكلم ونحو ذلك، فلا معنى لذلك إلا أنه لم يكن متكلما، ثم تكلم، ولم يكن غاضبا ثم غضب، ولم يكن فرحا ثم فرِحَ! ولا معنى للفرح إلا قيام معنى وجودي لا مجرد اعتبار بالله تعالى. وتعلقوا أيضا بما ورد من نسبة النزول لله تعالى في الثلث الأخير من الليل ونحو ذلك.
وأجاب أهل السنة:
بأن ما تعلقتم به من نصوص لا تفيد بالضرورة ما زعمتموه، فالانتقام قد يطلق ويراد به مجرد إنزال العذاب بمستحقه من العاصين المجرمين، والفرح يطلق ويراد به رضا الله تعالى عن عباده الطائعين له، والنزول قد يطلق ويراد به القرب المعنوي أو قرب الإجابة للدعاء وذلك لما يضفيه الليلعلى الإنسان لا على الله تعالى من إخلاص إذا قام في نصفه وتعبد لله تعالى فيكون عمله أقرب إلى القبول، فعبر بالنزول عنه لما في النزول من القرب، وأما الحديث الشريف فقد ورد في روايات أخرى أن الله يأمر ملكا فينزل في الثلث الأخير من الليل وينادي ألا من مستغفر فيغفر له نداء عن الله تعالى، فنسب النزول لله مجازا قريبا إلا على أذهان من تغلغل التجسيم والتشبيه في نفوسهم.
والخلاصة أنَّ أهل السنة لم يسلموا تعين النصوص التي تمسك بها المجسمة والمشبهة في المعاني التي حملوها عليها، بل قال أهل السنة إن تلك الاستعمالات الواردة في القرآن والسنة تحتمل معاني أخرى لائقة بالله تعالى، فيجب حملها عليها، وذلك لأن ما حمله المجسمة عليها من معانٍ لا تليق بالله تعالى، لأنَّ الإله كامل في ذاته، واتصاف بصفات معان وجودية حادثة لم تكن ثم كانت، ولمكن متصفا بها ثم اتصف بعد خلقه المخلوق، يستلزم بالضرورة أنه لو لم يخلق المخلوق لم يتصف بها أبدا، ولم تقم به، ولما زعم المجسمة والمشبهة أن هذه الصفات الحادثة كمالات، وأنها موقوفة على وجود المخلوقات بالضرورة، لزمهم بالضرورة افتقار الخالق إلى المخلوق لاتصافه بتلك الصفات، وهذا ما يجب تنزيه الله تعالى عنه ضرورة عند العقلاء.
والأمر الثاني: إثبات الصفات الأعيان للذات، كاليد والوجه ونحوهما
فاحتج المجسمة والمشبهة على إثبات اليد والوجه صفات هي أعيان وأبعاض لله تعالى، بأنَّ المتعارف عليه بيننا أنا نطلق اليد على ذلك العضو الذي هو جزء وعين متصل بالذات، وكذلك الوجه، ولم نعرف الوجه صفة معنى ولا اليد كذلك، فوجب أنْ نثبتها أعيانا، غاية الأمر أنّ أجزاء الإنسان والمخلوق التي هي اليد والوجه والعين ونحوها، يمكن أن تنفصل عن الإنسان، وأما يد الله تعالى ووجهه فلا يمكن أن تنفصل عنه مع كونها أعياناً كالذات، واعتبروا عدم الانفصال بالفعل كافيا في التفريق بين الخالق والمخلوق!
وأيضا: فقد قالوا: إنا عندما نثبت اليد والوجه ونحوهما لله فإننا لا نقول إن صورة يد الله ووجهه كصورة وجه الإنسان ويده، وبذلك ننفكُّ عن التشبيه.
وزعموا أنَّ نفي ما أثبتوه نفي للصفات! فوصفوا النافين لما أثبتوه بأنهم نفاة للصفات ومعارضين لما ورد في القرآن صريحا.
وبعض المجسمة صرَّح بهذه المعاني، وبعضهم لوَّح بها ولم يجرؤ لاختلاطه بأهل السنة على التصريح فتلعثم وبعثر كلامه لكي لا يكشفوا حقيقة اعتقاده!
وأجاب أهل السنة:
بأن هذا الذي تقولونه عين التجسيم سواء اعترفتم بأنه تجسيم وتشبيه أم لم تعترفوا.
أما كون المعنى المراد من اليد بيننا متبادراً شائعاً في العضو المعروف، فقد نسلم بذلك، ولا ننفيه، ولكن من أين يستلزم ذلك أن اليد إذا أضيفت إلى الله تعالى فإنه يجب علينا أن نثبت لها نفس هذا المعنى المتبادر إطلاقه على الإنسان أو المخلوقات إلا إذا كان القائل بذلك يضمر في نفسه أن الله تعالى في نفسه وحقيقته يشابه الإنسان! ومن هنا أصل تعلقهم بمقولتهم.
ولو أنهم التفتا إلى محكم ما أتى في القرآن من أن الله تعالى (ليس كمثله شيء)، و(لم يكن له كفوا أحد) وما ورد في السنة (ليس له شبه ولا عدل) ونحو ذلك، لبادروا إلى صرف أذهانهم عن هذه المعاني اللائقة بالإنسان غير اللائقة بالرحمن الملك الديان. فإنما اليد آلة يتوصل بها الإنسان إلى أفعاله، وكذلك العين والأصابع، ولكن الله تعالى لا يتوقف في أفعاله على آلات ولا على جوارج، بل إنه جل وعزَّ بقدرته وإرادته قادر على خلق ما يريد، فلذلك نقول إذا نسبت اليد إلى الله تعالى فإنا ننفي أن يكون المراد باليد ذلك العضو المتبادر –سواء بنفس الصورة والهيئة او بغيرهما فإثبات أصل الصورة والهيئة تشبيه لا يصح نسبته إلى الله تعالى-، ونقول: إن الله تعالى أطلق اليد واراد لازمها، كالقدرة أو عنايته بالمخلوق بما يودعه فيه من خصائص خاصة تميز المخلوق عن غيره، ولذلك أضيف خلق آدم عليه السلام إلى يد الله، وإنما خلقه الله تعالى بقدرته، ولكنه عبر عن ذلك باليد لما أودعه في آدم أورثها لأولاده، وكذلك أضيف خلق السموات وغيرها ليد الله تعالى، لما فيها من خصائص تميزها هذه المخلوقات عن غيرها.
فهذا إذن أسلوب بلاغيٌّ يجب حمل كلام ربِّ العزة عليه، لئلا يلزمنا التشبيه والتجسيم.
وهكذا نقول في غيرها من مواضع.
وفضلا عن ذلك: فلو قلنا إن الله تعالى خلق آدم بيد، وقلنا إن اليد غير قدرته، للزم من ذلك أن يصح القول: إن الله تعالى خلق آدم بيده لا بقدرته! وهذا شنيع جدا، فكل المخلوقات خلقها الله تعالى بقدرته، وهذا أدل دليل على أن اليد ليست أمرا غي القدرة أو راجعة إليها مع ملاحظة صفات أخرى.
وقد يلتزم بعض المجسمة ذلك بجهلهم، فيقولون: خلق الله تعالى بعض مخلوقاته بيده لا بقدرته، وخلق بعضها بقدرته لا بيده، وهذا إلحاد ونفي لعموم تعلقات القدرة.
الصفات الإضافية والتعلقات
قال أهل السنة بأنَّ لصفات الله تعالى تعلقات، فالقدرة متعلقة بالممكنات، والإرادة بالممكنات، والعلم بالممكنات والواجبات والمستحيلات، وهكذا، وهو مبحث معروف عند أهل السنة، وأنَّ هذه التعلقات تنقسم إلى تعلقات صلوحية ثابتة لنفس الصفة قديمة بقدم الذات والصفات، ولا تثبت تعلقات صلوحية لله تعالى حادثة، فإن كل التعلقات الصلوحية كمال لله، ولا يصح أن يكون كمال الله تعالى حادثا.
وأما التعلقات التنجيزية، فبعضها قديم كتعلق العلم، وبعضها حادث كتعلق القدرة التنجيزي.
وإنما قال أهل السنة إن تعلق القدرة التنجيزي حادث لأنه لو كان التعلق التنجيزية قديما للزم قدم مخلوق الله تعالى، وهذا محال، لأن الشيء في نفسه لا يكون قديما مخلوقا، لأنَّ المخلوقية تنافي القدم. ولأنَّ الممكن لا يقبل في نفسه الوجود في القدم لأن معنى إمكانه يستلزم مسبوقيته بالعدم على قواعد أهل السنة.
وقال أهل السنة إن تعلقات القدرة التنجيزية الحادثة، تفيد كمالا للمخلوق، ولا يستفيد الله تعالى بها كمالا، لأنها عبارة عن إيجاد للمخلوق، والله تعالى لا يستفيد بخلقه الخلقَ صفة ولا كمالا لم يكن قبلهم من صفته كما صرح بذلك الإمام الطحاويُّ في متنه المشهور.
والتعلق التنجيزيُّ ليس أمراً وجودياً بل هو نسبة واعتبار بين الصفة الوجودية والمتعلَّق، وإنما يوصف بالحدوث لأنَّ أحد طرفيه وهو المخلوق الممكن الذي وجد بقدرة الله تعالى حادث، أي لم يكن ثم كان، وهو معنى الحدوث. فلحدوث هذا الطرف سمينا التعلق حادثاً، ويسميه العلماء المحققون تجدُّداً.
وقد تعلق بعض المجسمة بهذا الأمر الذي قرره أهل السنة فقالوا: يلزمكم قيام الصفات الحادثة بالله تعالى، ويلزمكم وصف الله تعالى بالصفات الحادثة، معتمدين على كون التعلقات التنجديزية حادثة.
والجواب بعد التوضيح السابق صار بينا: وخلاصته أنَّ التعلق أمر اعتباريٌّ وليس صفة وجودية قائمة بالله تعالى، فالقائم بالله تعالى إنما هو الصفة القديمة، وحدوث التعلق التنجيزي لا يستلزم حدوث الصفةا لقديمة كما هو واضح، فلا معنى لإلزامكم إيانا بقيام الصفات الحادثة بالله تعالى.
وأما قولنا إن الله تعالى خالق، فهذا وصف مشتقٌّ، لا يستلزم إلا ثبوت منشأ الاشتقاق لله تعالى. فعلى طريقة الماتريدية منشأ الاشتقاق له إنما هو صفة التكوين الثابتة لله تعالى، وهي صة قديمة لا حادثة، فلذلك يقولون إن إطلاقنا اسم الخالق على الله تعالى قبل أن يخلق الخلقَ إطلاق حقيقيٌّ لأن منشأ الإطلاق وهو الصفة القديمة ثابتة لله تعالى وليس حادثة، وأما على طريقة الأشاعرة فقد قالوا: إن أصل إطلاق هذا المشتق هو ثبوت التعلق الحادث، الذي ليس بأمر وجود قائم بالله تعالى، واشتقاق اسم لله تعالى من هذا التعلق إنما هو باعتبار أن التعلق راجع إلى الصفة القديمة وليس بعينها لحدوثه وقدمها، ولذلك يقولون إن إطلاق اسم الخالق على الله تعالى قبل الخلق يكون إطلاقا مجازيا، ومعناه أنه القادر على الخلق، لا الخالق بالفعل، لأنَّ الخالق هو الذي خلق مخلوقا عندهم، لا مجرد القادر على ذلك خلافا للماتريدية، وأمَّا إطلاق اسم الخالق على الله تعالى بعد الخلق فهو إطلاق حقيقيٌّ لا مجازيٌّ، فالخلاف بينهما خلاف في أمر لغوي إذن لا في أمر عقائديٍّ، ولا يستلزم ذلك على أيٍّ من طريقتيهما قيام صفة حادثة بالذات القديمة ولا اتصاف الله تعالى بكمال لم يكن متصفا به قبل خلقه المخلوقات كما يقول به المجسمة والمشبهة لله تعالى.
وبذلك تبين أنَّ ما يُلزِمُ المجسمةُ به الأشاعرةَ لا يلزمهم مطلقا، وإنما هي تهويشات وتشنيعات لا يهش بها إلا منحرف العقل، ولا يتأثر بها إلا واحد غير راسخ في المعارف والعلوم ومصطلحات العلماء، فيتمسك بجهله أو بجهالة الناس لترويج مثل ذلك.
وبذلك أكون قد قمت ببيان أهمِّ ما يقال في هذه المسألة، بتلخيص وتحرير واضحين، راجياً أنْ يكون ذلك مفيداً لطالب العلم.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين.