السلام عليكم؛
يقول ابن خلدون (784ﻫ) في مقدمته:
« لمّا كثرت العلوم والصنائع، وولع الناس بالتدوين والبحث في الأنحاء، وألّف المتكلّمون في التنـزيه، حدثت بدعة المعتزلة في تعميم هذا التنـزيه في آي السلوب، فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة... وكان ذلك سبباً لانتهاض أهل السنّة بالأدلّة العقليّة على هذه العقائد، وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعريّ (324ﻫ) إمام المتكلّمين، فتوسّط بين الطرق، ونفى التشبيه، وأثبت الصفات المعنويّة، وقصر التنـزيه على ما قصره عليه السلف، وشهدت له الأدلّة المخصّصة لعمومه، وكثر أتباع الشيخ .. ، وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلانيّ (403ﻫ)، فتصدّر للإمامة في طريقتهم وهذّبها ووضع المقدّمات العقليّة التي تتوقّف عليها الأدلّة والأنظار؛ وذلك مثل: إثبات الجوهر الفرد، والخلاء، وأنّ العرَض لا يقوم بالعرَض، وأنّه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك ممّا تتوقف عليه أدلّتهم. وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانيّة في وجوب اعتقادها؛ لتوقّف تلك الأدلة عليها، وأنّ بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول. فكملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظريّة والعلوم الدينيّة؛ إلا أنّ صور الأدلّة فيها بعض الأحيان على غير الوجه الصناعيّ لسذاجة القوم، ولأنّ صناعة المنطق التي تسير بها الأدلّة، وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذٍ ظاهرة في الملّة، ولو ظهر منها بعض الشيء، فلم يأخذ به المتكلّمون؛ لملابستها للعلوم الفلسفيّة المباينة للعقائد الشرعيّة بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك».
ويقول في موضع آخر:
«ثمّ خلط المتأخّرون من المتكلّمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لعروضها في مباحثهم، وتشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيّات، ومسائله بمسائلها، فصارت كأنها فنّ واحد، ثمّ غيّروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيّات والإلهيّات، وخلطوهما فَنًّا واحداً، قدّموا الكلام في الأمور العامّة، ثمّ أتبعوه بالجسمانيّات، وتوابعها، ثم بالروحانيّات، وتوابعها، إلى آخر العلم - كما فعله الإمام ابن الخطيب [يقصد: الفخر الرازيّ (606ﻫ)] في "المباحث المشرقيّة"، وجميع من بعده من علماء الكلام - . وصار علم الكلام مختلطاً بمسائل الحكمة، وكتبه محشوّة بها كأنّ الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد! والتبس ذلك على الناس».
السؤال هنا:
إذا كانت بدايات علم الكلام الفلسفي من صنيع الفخر الرازيّ، فما معنى وجود أبحاث تحت مسمى "إثبات الجوهر الفرد، والخلاء، وأنّ العرَض لا يقوم بالعرَض، وأنّه لا يبقى زمانين" والتي مر الحديث عنها في تقرير ابن خلدون عن الكلام على عهد الباقلاني؟!