سأل أحد الفضلاء حول التلوث البيئي وواجب المسلم فيه فأجبته بالجواب الذي يأتي وأحب أن يشاركني أخوتي من الشافعية وغيرهم في ذلك ..
وكان سؤاله:
اشتهر في الآونة الأخيرة خطر الأزمات البيئية التي تتوالى على الإنسانية والكرة الأرضية يوماً بعد يوم، وأن التدهورَ البيئيَّ الحاصلَ بفعل الإنسان مؤدٍ لا محالةَ لهلاك البشرية إن استمرَّ الحال على ما هو عليه كما أثبتت الدراسات الأخيرة، وعليه فهل يجبُ وجوباً شرعياً على مَن عَلِمَ ذلك أن يراعي القضايا البيئية في خاصة نفسه، فيقتصد في استعمال الماء والكهرباء ووسائل النقل والطاقة بأنواعها، ويقلِّل ما أمكن من استعمال البلاستيك والأوراق التي مصدرها الأشجار وإن عَلِمَ أن اقتصادَه هذا لن يؤثر في وقف تدهور البيئة العامة؛ إذ التدهورُ يرجع جلُّه إلى جشع الشركات الكبيرة التي دمَّرت المواردَ البيئيةَ لغاياتها المادية، ويرجع في جزء منه إلى إهمال البشر للبيئة وعدم وَعْيِهم بالمخاطر المحدقة بهم. أو يقالُ: إنه مستحب فقط ولا يصل الأمرُ لدرجة الوجوب؟ أفيدونا بما تقتضيه الأدلة الشرعية ومذاهب العلماء.
وقد أجابه الفقير الى الله بـ:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سيدي فلان –حفظه الله- لعل الجواب على مقتضى المذهب الشافعي يكون على الوجه التالي:
الأصل في حكم هذه المسالة حكم الشرط الذي يذكره الفقهاء ، وهو ما يحصل التأثير عنده بغيره المتوقف تأثيره عليه كالحفر مع التردي فإن المفوِّت هو التخطي صوب البئر والمحصل هو التردي فيها المتوقف على الحفر.(1)
وحكم هذه الأفعال الإثم والتعزير(2) ، بل والضمان في بعض الحالات ، لكن محل ذلك الحكم عند توفر شروطه، وهي باستقراء ما قال الشافعية ما يلي:
الشرط الأول : أن يكون الضرر بحيث يبيح التيمم.
فإن أدى الضرر إلى مبيح تيمم -بأن يُخاف معه تلف نفس أو عضو أو منفعته أو حدوث مرض مخوف أو بطء البرء أو شين فاحش في عضو ظاهر-فيحرم ذلك الفعل المؤدي إلى ذلك الضرر، سواء تجاوز ذلك الفعل العادة أم لم يتجاوزها.
أما إن لم يكن الفعل مبيحا للتيمم؛ فإن تعدى فاعل الفعل فيه منع من الضرر الحاصل لممتلكات الناس، ولم يمنع بما اضر الناس أنفسهم إن كان ضررهم لا يبيح التيمم.
وضابط التعدي أن يتجاوز الضرر المعتاد، أو بان لا يصبر عليه كما يفهم من كلام الشيخ ابن حجر في الحقوق المشتركة.(3)
وأما لو لم يبح التيمم ولم يتعد فلا ضمان مطلقاً.
نعم اختار جمع المنع من كل مؤذ لم يعتد، والروياني أنه لا يمنع إلا إن ظهر منه قصد التعنت والفساد.(4)
الشرط الثاني أن يكون الضرر قطعياً أو ظنياً.
والذي يظهر في ضبط القطعي بأن يكون مقدمات التوصل للعلم بذلك الضرر قطعية، وأن يخبر به جمع تحيل العادة تواطئهم على الكذب بذلك، كما ضبط الشيخ ابن حجر نظير ذلك في الصوم . (5)
وكذلك الحكم فيما لو كان حصول العلم بذلك الضرر ظنيا، وكان ذلك الظن قويا كأن شهد به خبيران.
أما أن لم يتحقق أو يظن ضرر بالأشياء المذكورة في السؤال وكان الحاصل فقط هو مجرد إسراف في استخدام الموارد البيئية ، فالحكم حينئذ الكراهة فقط، ومحلها –أي الكراهة- في القدر الذي يحصل به الإسراف فقط ، فالإسراف لذاته مكروه ، وفد يقترن به ما يصير به حراماً. (6)
الشرط الثالث : تعمد الأفعال الموجبة للضرر مع العلم بكونها مضرة.
ولا يشترط لتحقق التحريم قصد الإيذاء والضرر، بل تعمد ذلك كافٍ . (7)
الشرط الرابع : أن يكون الضرر حاصلا أثناء الفعل أو منسوبا إليه عادة.
أما إن لم يكن ثمة ضرر حالة الفعل أو منسوب إليه عادة فلا يحرم الفعل إلا إن كان الفعل الحادث يبلغ مع مجموع الفعال السابقة مرتبة الضرر، ويعلم بذلك الفاعل . (8)
فإن كان نتاج الأعوام السابقة من نحو مخلفات المصانع غير مضر لكنه مع نتاج اليوم مضر فالمحرم نتاج اليوم فقط.
ونذكر أخيرا بما ورد رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن سائبة مولاة الفاكه بن المغيرة أنها دخلت على عائشة فرأت في بيتها رمحا موضوعا فقالت يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا قالت نقتل به هذه الأوزاغ فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن إبراهيم لما ألقي في النار لم تكن في الأرض دابة إلا أطفأت النار غير الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله.
قال الشيخ ابن حجر( تنبيه: استدل الرافعي لتحريم الوزغ بأنه نهي عن قتلها وهو سبق قلم بلا شك فقد روى مسلم أن من قتلها في أول ضربة كتب له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك وفي ذلك حض أي حض على قتلها قيل لأنها كانت تنفخ النار على إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم)).والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-قال الشيخ ابن حجر( والشرط ما لا ولا إنما حصل التأثير عنده بغيره المتوقف تأثير عليه كالحفر مع التردي فإن المفوت هو التخطي صوب البئر والمحصل هو التردي فيها المتوقف على الحفر ومن ثم لم يجب به قود مطلقا)). تحفة المحتاج في شرح المنهاج، ج 8ص383 .
2-قال الشيخ ابن حجر مع المنهاجولو أمسكه ) أي الحر ولو للقتل ( فقتله آخر أو حفر بئرا ) ولو عدوانا ( فرداه فيها آخر ) وهي تقتل غالبا ( أو ألقاه من شاهق ) أي مكان عال ( فتلقاه آخر ) بسيف ( فقده ) به نصفين ( فالقصاص على القاتل والمردي والقاد ) الأهل ( فقط ) أي دون الممسك والحافر والملقي لحديث { في الممسك } صوب البيهقي إرساله وصحح ابن القطان إسناده ولقطع فعله أثر فعل الأول وإن لم يتصور قود على الحافر لكن عليهم الإثم والتعزير . تحفة المحتاج في شرح المنهاج، ج 8ص387 .
3-قال الشيخ ابن حجر( وسيعلم مما هنا وفي الجنايات أن الضرر المنفي ما لا يصبر عليه مما لم يعتد لا مطلقا )). تحفة المحتاج في شرح المنهاج، ج 8ص198
4-قال الشيخ ابن حجر مع المنهاج( والدار المحفوفة بدور ) أو شارع بأن أحيي الكل معا أي أو جهل كما هو ظاهر ( لا حريم لها ) إذ لا مرجح لها على غيرها نعم أشار البلقيني واعتمده غيره إلى أن كل دار لها حريم أي في الجملة ، قال وقولهم هنا لا حريم لها أرادوا به غير الحريم المستحق أي وهو ما يتحفظ به عن يقين الضرر ( ويتصرف كل واحد ) من الملاك ( في ملكه على العادة ) وإن أضر جاره كأن سقط بسبب حفره المعتاد جدار جاره أو تغير بحشه بئره ؛ لأن المنع من ذلك ضرر لا جابر له ( فإن تعدى ) في تصرفه بملكه العادة ( ضمن ) ما تولد منه قطعا أو ظنا قويا كأن شهد به خبيران كما هو ظاهر لتقصيره ( والأصح أنه يجوز أن يتخذ داره المحفوفة بمساكن حماما وإصطبلا ) وطاحونا وفرنا ومدبغة ( وحانوته في البزازين حانوت حداد ) وقصار ( إذا احتاط وأحكم الجدران ) إحكاما يليق بما يقصده بحيث يندر تولد خلل منه في أبنية الجار ؛ لأن في منعه إضرارا به .
واختار جمع المنع من كل مؤذ لم يعتد والروياني أنه لا يمنع إلا إن ظهر منه قصد التعنت والفساد وأجرى ذلك في نحو إطالة البناء وأفهم المتن أنه يمنع مما الغالب فيه الإخلال بنحو حائط الجار كدق عنيف يزعجها وحبس ماء بملكه تسري نداوته إليها قال الزركشي والحاصل منع ما يضر الملك دون المالك ا هـ .
واعترض بما مر في قولنا ولا يمنع من حفر بئر بملكه ويرد بأن ذاك في حفر معتاد وما هنا في تصرف غير معتاد فتأمله ، ثم رأيت بعضهم نقل ذلك عن الأصحاب فقال قال أئمتنا وكل من الملاك يتصرف في ملكه على العادة ولا ضمان إذا أفضى إلى تلف ومن قال يمنع مما يضر الملك دون المالك محله في تصرف يخالف فيه العادة لقولهم لو حفر بملكه بالوعة أفسدت ماء بئر جاره أو بئرا نقصت ماءها لم يضمن ما لم يخالف العادة في توسعة البئر أو تقريبها من الجدار أو تكن الأرض خوارة تنهار إذا لم تطو فلم يطوها فيضمن في هذه كلها ويمنع منها لتقصيره ، ولو حفر بئرا في موات فحفر آخر بئرا بقربها فنقص ماء بئر الأول منع الثاني منه ، قيل والفرق ظاهر ا هـ وكأنه أن الأول استحق حريما لبئره قبل حفر الثاني فمنع لوقوع حفره في حريم ملك غيره ولا كذلك فيما مر ولو اهتز الجدار بدقه وانكسر ما علق فيه ضمنه إن سقط حالة الضرب وإلا فلا قاله العراقيون وقال القاضي لا يضمن مطلقا ويظهر على الأول أن سقوطه عقب الضرب بحيث ينسب إليه عادة كسقوطه حالة الضرب بل قد يقال إن مرادهم بحالة الضرب ما يشمل ذلك ( تنبيه ) ينبغي أن يستثنى من قولهم لا يمنع مما يضر المالك ما لو تولد من الرائحة مبيح تيمم كمرض فإن الذي يظهر أنه إن غلب تولده وإيذاؤه المذكور منع منه وإلا فلا .
5_الحساب إن اتفق أهله على أن مقدماته قطعية وكان المخبرون منهم بذلك عدد التواتر ردت الشهادة وإلا فلا)). تحفة المحتاج في شرح المنهاج، ج 6 ص209.
6-قال الشيخ ابن حجر( ويكره الإسراف في الماء ولو على الشط نهاية أي شط البحر بخلاف ما لو كان على نفس البحر فلا كراهة)). تحفة المحتاج في شرح المنهاج، ج 1ص231.
وقال(ومحل جواز التعدد على القول به حيث لم يعد إسرافا وإلا حرم ما حصل به الإسراف)). تحفة المحتاج في شرح المنهاج، ج 3 ص277.
قال كذلك مع المنهاج( ( والأصح أن صرفه في الصدقة ووجوه الخير ) عام بعد خاص ( والمطاعم والملابس ) والهدايا ( التي لا تليق ) به ( ليس بتبذير ) ؛ لأن له فيه غرضا صحيحا هو الثواب أو التلذذ ومن ثم قالوا لا سرف في الخير كما لا خير في السرف وفرق الماوردي بين التبذير والسرف بأن الأول الجهل بمواقع الحقوق والثاني الجهل بمقاديرها وكلام الغزالي يقتضي ترادفهما ويوافقه قول غيره حقيقة السرف ما لا يقتضي حمدا عاجلا ولا أجرا آجلا ولا ينافي ما هنا عد الإسراف في النفقة معصية ؛ لأنه مفروض فيمن يقترض لذلك من غير رجاء وفاء من جهة ظاهرة مع جهل المقرض بحاله)) . تحفة المحتاج في شرح المنهاج، ج 5ص167
7-قال ابن قاسم في حاشيته على التحفة : يكفي في التحريم تعمد الفعل المؤذي مع العلم بأنه مؤذ وإن لم يقصد الإيذاء
8-قال الشيخ ابن حجر مع المنهاج( ( ولو ضربوه بسياط فقتلوه وضرب كل واحد غير قاتل ) لو انفرد ( ففي القصاص عليهم أوجه أصحها يجب إن تواطئوا ) أي توافقوا على ضربه وكان ضرب كل منهم له دخل في الزهوق ، وإنما لم يشترط ذلك في الجراحات والضربات المهلك كل منها لو انفرد ؛ لأنها قاتلة في نفسها ويقصد بها الإهلاك مطلقا والضرب الخفيف لا يظهر فيه قصد الإهلاك إلا بالموالاة من واحد والتواطؤ من جمع .
قال عبدالحميد: ( قول المتن إن تواطئوا ) ظاهر كلامهم هنا أنه لا قصاص عند عدم التواطؤ وإن علم بالضرب السابق وهو واضح إذا لم يبلغ مجموع الضرب السابق مرتبة ما يقتل غالبا ، أما إذا بلغها وعلم بذلك فالقول حينئذ بعدم القصاص محل تأمل وتقدم أنه لو ضرب خمسين تقتل ثم ضربه آخر ضربتين مع علم السابق قتلا. تحفة المحتاج في شرح المنهاج، ج8 ص410.