كتاب السر المكتوم لإمام أهل السنة والجماعة فخر الدين الرازي، هو الذي من أجله قام بعض الناس، كابن تيمية وأتباعه، بقذف الإمام الرازي بالشرك، وهذا لتعصبهم ضده (كونه كاسر شوكة الكرامية المجسمة).
وأود القول بأن ما فعله الإمام الرازي رضي الله عنه، حين ألف كتاب السر المكتوم، إنما هو اقتداء بهدي الله تعالى، وهو عمل نرجو الله تعالى له الثواب الجزيل عليه.
أما أن فعله في تأليفه السر المكتوم هو اتباع لهدي الله، فالإثبات من كلامه هو رحمه الله تعالى، وسندافع نحن عنه بمثل ما دافع هو رحمه الله ورضي عنه عن ملكين من عباد الله المكرمين، هما هاروت وماروت.
يقول شيخ الإسلام وفخر الدين والملة أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، رضي الله عنه وعن جده الصديق صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كتابه: "الأربعين في أصول الدين":
((الشبهة الثالثة: تمسكوا بقصة هاروت وماروت، والقصة مشهورة.
والجواب: ليس الأمر كما يقال في تلك القصة الخبيثة، بل الحكمة في إنزالها أن السحرة كانوا يتلقون الغيب من الشياطين، وكانوا يلقونها فيما بين الخلق، وكان ذلك تشبيهًا بالوحي النازل على الأنبياء _صلوات الله وسلامه عليهم_ فالله تعالى أمرهما بالنزول إلى الأرض حتى يعلما كيفية السحر للناس، وإليه الإشارة في قوله تعالى حكاية عنهما: ((إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) نحن إنما نعلمكم السحر لتتوصلوا به إلى الفرق بين المعجزة والسحر، فلا ينبغي أن تستعملوا هذا السحر في أغراضكم الباطلة، فإنكم إن فعلتم ذلك كفرتم . . . والجهال قلبوا القصة، وجعلوا ذلك سببًا للطعن في هذين المعصومين، وذلك جهل عظيم)) اهـ.
إذن: فالله تعالى هو الذي أمر الملائكة الكرام بأن يبينوا للناس حقيقة السحر، حتى لا يختلط عليهم أمر دينهم، وليت شعري: هل الذي فعله الإمام الرازي شيء غير هذا؟
وإليك تصريحه رضي الله عنه بوجوب بيان أمر السحر للناس:
قال أخي العزيز عثمان النابلسي في الموضوع الذي سأضع رابطه في نهاية موضوعي:
فقال_أي الإمام الرازي_ في تفسيره: (. . . ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز , والعلم بكون المعجز معجزاً واجب , وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب , فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً , وما يكون واجباً كيف يكون حراماً وقبيحاً؟!)
فتأمل قوله : (فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً) لتعلم أنّ الإمام الرازي كان يرى وجوب تعلم السحر للبعض , فلهذا كان اطلاعه على السحر ومعرفته بأصوله ومذاهبه من هذا الباب , وقد أراد بكتابه "السر المكتوم" أن يجمع فيه ما وصل إليه من علم السحر ليسهل تصوره ومعرفة أصوله ويسهل التمييز بينه وبين المعجز , وحتى لا يغتر الجهلة بأفعال السحرة ويعتقدون فيهم الخير وهم على أعظم الشر .
وهذا الكلام قد قاله الإمام في تفسيره وهو مما ألفه قبل "السر المكتوم" .
وذكر في تفسيره مجموعة من أغراض تعلم السحر (1/199) , منها :
- كثرة السحرة الذين يستنبطون أبواباً غريبة في السحر , وكانوا يدعون النبوة ويتحدون الناس بها , فكان تعلم السحر للتمكن من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذباً , ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد .
- أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسحر متوقف على العلم بماهية المعجزة وبماهية السحر .
- أن تحصيل العلم بكل شيء حسن , ولما كان السحر منهياً عنه وجب أن يكون متصوراً معلوماً , لأن الذي لا يكون متصوراً امتنع النهي عنه. اهـ كلام أخي عثمان وفقه الله، بتصرف.
إذن فكتاب السر المكتوم جاء نتيجة طبيعية لما توصل إليه هذا الإمام العظيم من وجوب التبيين، والذي هو وظيفة رسل الله تعالى، حيث لعب الإمام الرازي هنا الدور الذي لعبه رسل الله المكرمون هاروت وماروت،
فبالله يا منصفون، يا عاقلون، يا ذوي الأبصار: أهذا يستحق أن يكفّر؟!!أم الواجب الدعاء له بأن يقبل الله تعالى عمله هذا ويجعله في ميزان حسناته إلى جانب ما قدمه من جهد بليغ في الذب عن مذهب أهل السنة؟
نزل الملائكة من السماء بأمر من الله تعالى، ليبينوا للناس الفرق بين السحر والمعجزة، حتى لا يلبس أحد عليهم دينهم..
وهذا ما قام به الإمام الرازي في كتابه السر المكتوم ...
بين الملائكة الكرام أنهم إنما نزلوا لمجرد تعليم الناس، وأما العمل بالسحر فهو كفر..
وهذا ما فعله الإمام الرازي، حيث قال في تفسيره: ((اختلف الفقهاء في أن الساحر هل يكفر أم لا؟
روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : ( من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقهما بقول فقد كفر بما أنزل على محمد) عليه السلام .
واعلم أنه لا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم , وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور , فإنه يكون كافراً على الاطلاق , وهذا هو النوع الأول من السحر .
أما النوع الثاني : وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البنية والشكل , فالأظهر إجماع الأمة أيضاً على تكفيره))
ثم يحكم الإمام الرازي على الساحر بالقتل فيقول: ((والنوع الثاني وهو أن يعتقد أن الساحر قد يصير موصوفاً بالقدرة على خلق الأجسام وخلق الحياة والقدرة والعقل وتركيب الأشكال , فلا شك في كفرهما , فالمسلم إذا أتى بهذا الاعتقاد كان كالمرتد يستتاب , فإن أصر قتل , وروي عن مالك وأبي حنيفة أنه لا تقبل توبته , لنا أنه أسلم فيقبل إسلامه لقوله عليه السلام (نحن نحكم بالظاهر) )).
بعد ذلك أطلب منكم التأمل في قول الإمام الرازي الذي نقلته عنه في بداية الموضوع: ((والجهال قلبوا القصة، وجعلوا ذلك سببًا للطعن في هذين المعصومين، وذلك جهل عظيم)).
نعم يا مولانا الإمام الرازي، ولا مزيد على كلامك والله، فلن ندافع عنك بأكثر من عبارتك هذه، إذ أنك قد حكمت بها على منتقديك قبل أن يخرجوا من العدم إلى نعمة الوجود!!.
اللهم ارضَ عن سيدنا الإمام الرازي كما رضيت عن جده سيدنا أبي بكر الصديق.
واجعل كتابه (السر المكتوم) إلى جانب بقية تراثه العظيم، في ميزان حسناته، يوم يقدم عليك، إنك أنت ولي الصالحين.
هذا الرابط الذي وعدت به:
http://www.aslein.net/showthread.php?t=16099