إنكار العلماء على الأمراء


قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ قال ابن عباس وجابر: هم الفقهاء والعلماء الذين يعلّمون الناس معالم دينهم. وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد، وقال أبو هريرة: الأمراء والولاة. وهي رواية عن ابن عباس أيضا. إذن فقصر الإنكار على الأمراء يكون من قبل العلماء تحديدا بل والربانيون منهم؛ لأن الأصل في الطاعة أن تكون لأهل الولاية ولا ولاية عليهما لغيرهما، فإن عصى أحدهما دون إنكار من أقرانهم لزم على الآخر الإنكار عليه، والعلماء هم العالمون بالمجمع عليه وما كان الخلاف فيه سائغا وما كان من قبيل الضرورات وما كان اجتهاديا ونحوه.
كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر، الإنكار لا يكون إلا لفعل قبيح، فمن أنكر فعلا لم يقبحه الشرع فهذا يكون بالحقيقة متجاوزا في إنكاره، كأن ينكر على من يأتي بأخف الضررين وأهون الشرين وأقل المفسدتين، فهذا جاهل أتى بمنكر هو أحرى بإنكاره على نفسه من الإنكار على غيره.
الأمر بالمعروف يكون بالمعروف، والنهي عن المنكر لا يكون بمنكر، فالغاية لا تبرر الوسيلة، والنهي عن المنكر وسيلة ليست غاية، وإنما الغاية هي تغيير المنكر، فالمسألة اجتهادية مبنية على المصالح والمفاسد والمآلات والمقاصد والذرائع، لا أنها توقيفية فتحتاج منا إلى دليل تخصيص، وهذه الأمور تدخل في المعلوم من الدين بالضرورة.


ذكر الإمام الغزالي في الإحياء للحسبة مراتب خمسة هي على الترتيب: التعريف، والوعظ اللطيف، والمباشرة، والتعنيف، والتأديب. وأثبت أصل ولاية الحسبة للولد على الوالد والعبد على المولى والزوجة على الزوج والتلميذ على الأستاذ والرعية على الوالي مطلقاً كما تثبت بالعكس مع فرق في المراتب وتفصيل فيها، فللولد الحسبة بالتعريف والوعظ فقط وفي المباشرة نظر بحسب المصلحة، وأما الرعية مع السلطان فالأمر فيها أشد من الولد فليس لها معه إلا التعريف والنصح فأما المباشرة ففيها نظر أيضا. مصطلح الإنكار مشارك للدعوة والنصيحة في مراتب التعريف والوعظ -أو النصح- والمباشرة، مغاير لها في مرتبتي التعنيف والتأديب، فلا يصح بحال إلحاقهما بتلك الألفاظ، وهما مختصان بمن له ولاية أو حسبة كوظيفة لا كتطوع، فإذا عرف هذا علم أن كثيرا من المدعين للإصلاح يتعسفون في صلاحياتهم ويكابرون في تغافلهم عن معرفة قدر أنفسهم، وهم بذلك يفسدون من حيث لا يشعرون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.


إن فتح الذريعة للناس في الإنكار على الأمراء سبب في أكثر الأحيان إلى أبواب كثيرة من الفساد، سواء من إثارة الفوضى أو زيادة المنكر أو التدخل الأجنبي أو غير ذلك، وأهل العلم ذكروا نوعًا من الخوارج وهم الخوارج القَعَدِيَّة، وكانوا يقولون بقولهم ولا يرون الخروج بل يزينونه، وقال السيوطي -رحمه الله-: "عمران بن حطان من القعدية الذين يرون الخروج على الأئمة ولا يباشرون ذلك". وفي التاريخ شواهد كثيرة على دور دهماء الناس في إثارة الفتن:
كان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيئ جبلة بن عمرو الساعدي، مر به عثمان وهو جالس في ندي قومه، وفي يد جبلة جامعة، فلما مر عثمان سلم فرد القوم، فقال جبلة: لم تردون على رجل فعل كذا وكذا! قال: ثم أقبل على عثمان، فقال: والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه، قال عثمان: أي بطانة؟ فوالله إني لأتخير الناس، فقال: مروان تخيرته! ومعاوية تخيرته! وعبد الله بن عامر بن كريز تخيرته! وعبد الله بن سعد تخيرته! منهم من نزل القرآن بدمه وأباح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دمه، قال: فانصرف عثمان، فما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم. وقال ابن سبأ اليهودي في وصيته لأتباعه: ابدؤوا في الطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا قلوب الناس وادعوهم إلى هذا الأمر. وقال عبد الله بن حكيم الجهني: لا أعين على دم خليفة أبدا بعد عثمان! فقيل له: يا أًبا معبدٍ أًوَأًعنت على دمه؟ فيقول: إِني أعدُّ ذِكْرَ مساويه عوناً على دمِهِ.


كثير من الأحاديث يحشدها بعض المتسرعين ليحملوها على غير محملها ومن غير استقصاء لبقية الأحاديث في موضوعها وتُعارضها، مما يستدعي التوفيق بينها وعدم إغفال شيء منها، وإلا كان اجتزاءً أو تضعيفا في غير موضعه، العام المخصوص أو الذي أريد به الخصوص لا يؤخذ على عمومه كما هو معلوم في الأصول، فهذا إلغاء لكثير من النصوص الواردة في التلطف والإسرار بالنصيحة وغيرها، وجزء من هذه الأحاديث ليس صريحا في المجاهرة بالإنكار على الأمراء، وجزء آخر أتى على سبيل التشاور في الرأي والاجتهاد لا الإنكار، ومن ذلك ما لا يصح القياس والبناء عليه لتغير العرف والمصلحة بين الأزمنة.


عندما يتميز الخليفة بالتقوى يغلب على الظن تقبله للتعنيف في الإنكار، بل وحتى من غير العلماء، وهذا شأن الصالحين دوما إذ لا رؤية لأنفسهم؛ انشغالا باتهامها فيما يجب عليها تجاه رضوان الله، وهذا ملاحظ أيضا في سيرة الفاروق وعثمان وعلي وحتى معاوية -رضي الله عنهم أجمعين-.
لكن المتأمل فيما بعد عهد الصحابة وبعد ظهور الفرق والفتن العلمية يلاحظ تغير حال الخلفاء في تعاطيهم مع العلماء وطريقة تعاملهم معهم بل وحتى واحترامهم وتهيبهم لهم، وهذا حتى على مستوى الناس وانغماسهم في الدنيا وبُعد أكثرهم عن طلب العلم والاجتهاد في العبادة، فلأجل ذلك اختلف حينها العلماء في صور الإنكار على الأمراء بل وفي الترخص أحيانا من عدم الإنكار عند عدم القدرة وتحقق شروط الإكراه الملجئ، ومثال على ذلك فتنة خلق القرآن:


قال الإمام الذهبي: "كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمار، ولا عن يحيى بن معين، ولا عن أحد ممن امتحن فأجاب. قلت: هذا أمر ضيق، ولا حرج على من أجاب في المحنة، بل ولا على من أكره على صريح الكفر عملا بالآية -وهذا هو الحق-. وكان يحيى من أئمة السنة فخاف من سطوة الدولة وأجاب تقية." وقال ابن رجب: "إن خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذي أهله أو جيرانه لم ينبغ له التعرض لهم حينئذ لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره.. وأما إذا علم أنه لا يطيق الأذى ولا يصبر عليه فإنه لا يتعرض حينئذ للأمراء وهذا حق وإنما الكلام فيمن علم من نفسه الصبر لذلك قاله الأئمة كسفيان وأحمد والفضيل بن عياض وغيرهم." وقال ابن قدامة المقدسي: "فأما تخشين القول نحو يا ظالم يا من لا يخاف الله فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شرها إلى الغير لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه فهو جائز عند جمهور العلماء، قال والذي أراه المنع من ذلك .. فأما ما جرى للسلف من التعرض لأمرائهم فإنهم كانوا يهابون العلماء، فإذا انبسطوا عليهم احتملوهم في الأغلب."
ذكر ابن بطال في شرحه على البخاري: "قال المهلب: وأما قول أبي وائل: (قيل لأسامة: ألا تكلم هذا الرجل) يعنى عثمان بن عفان ليكلمه في شأن الوليد؛ لأنه ظهر عليه ريح نبيذ وشهر أمره، وكان أخا عثمان لأمه، وكان عثمان يستعمله على الأعمال، فقيل لأسامة: ألا تكلمه في أمره؛ لأنه كان من خاصة عثمان، وممن يخف عليه، فقال: قد كلمته فيما بيني وبينه، وما دون أن أفتح بابًا أكون أوّل من يفتحه، يريد لا أكون أوّل من يفتح باب الإنكار على الأئمة علانيةً فيكون بابًا من القيام على أئمّة المسلمين فتفترق الكلمة وتتشتت الجماعة، كما كان بعد ذلك من تفرق الكلمة بمواجهة عثمان بالنكير، ثم عرفهم أنه لا يداهن أميرًا أبدًا بل ينصح له في السر جهده بعدما سمع النبي يقول في الرجل الذي كان في النار كالحمار يدور برحاه، من أجل أنه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن الشر ويفعله يعرفهم أن هذا الحديث جعله ألا يداهن أحدًا، يتبرأ إليهم مما ظنوا به من سكوته عن عثمان في أخيه".


فهذه أقوال العلماء تمثل ضابطا في التعامل مع مثل هذه القصص والروايات، فلا يستشهد بقصة في زمن على تطبيقها في زمن مختلف من حيث ظروفه وأحواله، وإنما تقرأ هذه القصص بسياقها التاريخي، فمن ضوابط الاستدلال بهذه الأحاديث انتفاء الموانع من تسبب في فتنة، وتوفر الدواعي كغياب الحق عن الناس ونحوه. وضابطه مع حسن تقدير المآل ألا يجالس السلطان ويصاحبه ويكثر من مجالسته إلا بقدر ضرورة النصح له، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلَّى الله عليه وسلم- قال: "ومن لزمَ السُّلْطانَ افُتُتِن". يقول ابن مفلح الحنبلي في فصل انقباض العلماء المتقين من إتيان الأمراء والسلاطين: "والظاهر كراهته -يعني الدخول على الأمراء- إن خيف منه الوقوع في محظور، وعدمها إن أمن ذلك، فإن عري عن المفسدة واقترنت به مصلحة من تخويفه لهم ووعظه إياهم وقضاء حاجته كان مستحباً. وعلى هذه الأحوال ينزل كلام السلف وأفعالهم -رضي الله عنهم-".