بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله و كفى، اللهم صلِّ و سلّم و بارك على رحمتك للعالمين.

أما بعد،

فأول حديث أبدأ به ذكرَ خواطري عن هذا الكتاب العظيم، هو أكثر حديث مسني، جدًّا. ألا هو حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، الطويل، في باب التوبة. و سأعلق على بعض الكلمات التي قالها هذا الصحابي الجليل.

بسم الله،

قال كعب بن مالك رضي الله عنه:

{وكانَ مِنْ خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عَنْ رسولِ اللهِ ﷺ، في غَزْوَةِ تبُوك أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى ولا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخلَّفْتُ عَنْهُ في تِلْكَ الْغَزْوَة، واللَّهِ ما جَمعْتُ قبْلها رَاحِلتيْنِ قطُّ حتَّى جَمَعْتُهُما في تِلْكَ الْغَزوَةِ، ولَمْ يكُن رسولُ الله ﷺ يُريدُ غَزْوةً إِلاَّ ورَّى بغَيْرِهَا حتَّى كَانَتْ تِلكَ الْغَزْوةُ، فغَزَاها رسولُ الله ﷺ في حَرٍّ شَديدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفراً بَعِيداً وَمَفَازاً. وَاسْتَقْبَلَ عَدداً كَثيراً، فجَلَّى للْمُسْلمِينَ أَمْرَهُمْ ليَتَأَهَّبوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بوَجْهِهِمُ الَّذي يُريدُ، وَالْمُسْلِمُون مَع رسولِ الله كثِيرٌ وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ" يُريدُ بذلكَ الدِّيَوان" قَالَ كَعْبٌ: فقلَّ رَجُلٌ يُريدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلاَّ ظَنَّ أَنَّ ذلكَ سَيَخْفى بِهِ مَا لَمْ يَنْزِلْ فيهِ وَحْىٌ مِن اللَّهِ، وغَزَا رَسُول الله ﷺ تلكَ الغزوةَ حِينَ طَابت الثِّمَارُ والظِّلالُ، فَأَنا إِلَيْهَا أَصْعرُ، فتجهَّز رسولُ الله ﷺ وَالْمُسْلِمُون معهُ، وطفِقْت أَغدو لِكىْ أَتَجَهَّزَ معهُ فأَرْجعُ ولمْ أَقْض شَيْئاً، وأَقُولُ في نَفْسى: أَنا قَادِرٌ علَى ذلِكَ إِذا أَرَدْتُ، فلمْ يَزلْ يَتَمادى بي حتَّى اسْتمَرَّ بالنَّاسِ الْجِدُّ، فأَصْبَحَ رسولُ الله ﷺ غَادياً والْمُسْلِمُونَ معَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازي شيْئاً، ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَم أَقْض شَيْئاً، فَلَمْ يزَلْ يَتَمادَى بِي حَتَّى أَسْرعُوا وتَفَارَط الْغَزْوُ}

تمهيد! تمهيد يبين لنا سعة رحمة الله سبحانه و عظيم مغفرته. و أنه، و إن أخطأ العبد، حتى لو كان الخطأ جسيمًا، غير مبرّر عند الناس، غير مفهوم بالنسبة له لما اجترأ عليه؟ تكاسل ربما؟ مغفرة الله تسع ذلك كلّه، إن علم فيك الخير و الصدق.

فسيدنا كعب بن مالك تخلف عن غزوة لم يكن قط أقدر و لا أغنى مثلها، و إن كان رسول الله ورّى في غيرها فهذه قد حسم رسول الله صلى الله عليه و سلم الأمر فيها، حتى يتجهز الجميع جهازهم. و كان سيدنا بن كعب يُماطل و يُماطل و تكرر ذلك منه، حتى رحل رسول الله و المسلمون، و هو على حاله.

قال رضي الله عنه بعد أن ارتحلوا عنه:

{يُحْزُنُنِي أَنِّي لا أَرَى لِي أُسْوَةً، إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصاً عَلَيْه في النِّفاقِ، أَوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ تعالَى مِن الضُّعَفَاءِ}

حزن عميق، حيث يعلم في نفسه أن لا عذر له ظاهرًا لتخلّفه، و ليس ممن حوله من يستأنس بوجوده و يثبت صدق إيمانه بالله و حبه لله و رسوله. ما ههنا إلا منافق، أو شخص قدّم عذره لله و رسوله واضحًا.

قال:

{ولَمْ يَذكُرني رَسُولُ اللهِ ﷺ حتَّى بَلَغ تَبُوكَ، فقالَ وَهُوَ جَالِسٌ في القوْمِ بتَبُوك: ما فَعَلَ كعْبُ بْنُ مَالكٍ؟ فقالَ رَجُلٌ مِن بَنِي سلمِة: يا رَسُولَ اللهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَالنَّظرُ في عِطْفيْه. فَقال لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : بِئس مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يا رَسُولَ اللهِ مَا عَلِمْنَا علَيْهِ إِلاَّ خَيْراً، فَسكَت رَسُولُ اللهِ ﷺ.}

رسول الله مع آلاف المؤمنين لم ينسَ كعب بن مالك! فسأل عنه، فرد عليه أحد من بني سلمة بظنّ في نفسه، رد عليه بما صدّقه الواقع الذي رآه. فاعترض عليه الصحابي الأجلّ معاذ بن جبل: نحن لا نعلم من كعب بن مالك إلا الخير. و سكت رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلَم البشر بالغيب!

و إلى لقاءٍ مع قصة التوبة الرائعة!