التصوف الحنبلى "صوفية أهل الحديث": دعوة للاحياء فى سياق الحوار الصوفي/ السلفي
د. صبرى محمد خليل / أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه فى جامعه الخرطوم
Sabri.m.khalil@gmail.com
تمهيد: تهدف هذه الدراسة الموجزة الى إحياء التصوف الحنبلى،الذى لم تكتب له الاستمرارية عبر التاريخ الاسلامى- خلافا لاشكال اخرى للتصوف الاسلامى "السنى" - نتيجه لاسباب متعدده، أهمها تنامي الخلاف المذهبى بين مذهبين من مذاهب أهل السنة هما المذهب الحنبلي والمذهب الأشعري" . وذلك فى سياق تشجيع الحوار الصوفى- السلفي.باعتباره احد أشكال الحوار الداخلي،اى الحوار بين المسلمين،ومن موجباته تحقيق الوحدة الإسلامية "التكليفية"،والتى مضمونها الاتفاق على أصول الدين اليقينية الورود القطعية الدلالة،مع تضييق نطاق الاختلاف في فروعه الظنية الورود والدلالة ما امكن ، وهذا الشكل من أشكال الحوار يهدف الى إقرار التعدد والاختلاف المذهبي على مستوى الفروع، لكن دون ان بمس او يهدد هذا التعدد والاختلاف وحدة الأمة.
تعريف بالتصوف الحنبلى: هو احد مذاهب التصوف الاسلامى "السنى"، الذى يستند عقديا وفقهيا الى المذهب الحنبلى، والذى ظهر فى مرحلة معينه من مراحل التاريخ الاسلامى ، لكن وكما ذكرنا اعلاه لم تكتب له الاستمرارية - خلافا لمذاهب اخرى فى التصوف الاسلامى "السنى" - نتيجة لأسباب متعدده، أهمها تنامي الخلاف المذهبى بين مذهبين من مذاهب أهل السنة هما المذهب الحنبلي والمذهب الأشعري" .
تأريخ الامام ابن تيميه للتصوف الحنبلى"تصوف اهل الحديث": وقد قام الامام ابن تيميه بالتأريخ للتصوف الحنبلى، الذى اطلق عليه اسم تصوف اهل الحديث، حيث يشير الى ان العديد من شيوخ الصوفيه منذ القرن الثانى الهجرى على مذهب اهل السنه والجماعه ومذهب اهل الحديث، فيقول في كتابه ‘الصفدية‘(الشيوخ الأكابر -الذين ذكرهم أبو عبد الرحمن السُّلَمي (ت 412هـ/1023م) في ‘طبقات الصوفية‘ وأبو القاسم القُشيري (ت 465هـ/1074م) في ‘الرسالة‘- كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب أهل الحديث، كالفُضْيل بن عياض (ت 187هـ/803م) والجُنيد بن محمد (البغدادي ت 297هـ/910م) وسهل بن عبد الله التُّـسْتَري (ت 283هـ/896م) وعمرو بن عثمان المكي (ت بعد 300هـ/912م) وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي (ت 371هـ/982م) وغيرهم، وكلامهم موجود في السنة وصنفوا فيها الكتب)،كما يقوم بتصنيف الصوفيه طبقا لمنطلقاتهم الفكريه،ويشير فى هذا السياق الى صوفيه اهل الحديث( ...لكن بعض المتأخرين منهم " اى المتصوفة" كان على طريقة بعض أهل الكلام في بعض فروع العقائد، ولم يكن فيهم أحد على مذهب الفلاسفة، وإنما ظهر التفلسف في المتصوفة المتأخرين؛ فصارت المتصوفة تارةً على طريقة صوفية أهل الحديث وهم خيارُهم وأعلامهم، وتارةً على اعتقاد صوفية أهل الكلام"اى الاشاعره" فهؤلاء دونهم، وتارةً على اعتقاد صوفية الفلاسفة...).
اشكال التصوف الحنبلى : وباخذ التصوف الحنبلى اشكال متعدده منها:
انتماء بعض اعلام المذهب الحنبلى للتصوف: حيث تشير الكثير من المصادر و المراجع (الحنبلية قبل غيرها ) الى انتماء بعض ائمه المذهب الحنبلي للتصوف او تاثرهم به. فمن من انتمى منهم الى التصوف: الشيخ عبد القادر الجيلاني البغدادي(ت561 هـ) ، والفقيه هبة الله بن حبيش البغدادي(ت563 هـ)، وعثمان بن مرزوق المصري(ت564 هـ) ،والفقيه جاكير محمد بن دشم الكردي(ت590 هـ)، والفقيه عمر بن مسعود الفراس البغدادي(ت608 هـ، والمقرئ عفيف الدين بن دلف البغدادي(ت637 هـ) ،و الحافظ محمد بن أبي الحسن اليونيني(ت658 هـ) ،و أبو القاسم بن يوسف الحواري(ت663 هـ) والفقيه احمد بن الشيخ العماد المقدسي )ت688 هـ) ،والمؤرخ قطب الدين موسى بن الصوفي محمد اليونيني (ت726 ه) .ومن من تاثر بالتصوف: الواعظ سعد الله بن نصر الدجاجي البغدادي (ت564 ه) ،والأديب يحيّ بن يوسف الصرصري البغدادي الضرير (ت656 ه) ،و الطبيب أبو اسحق بن أحمد الرقي الدمشقي (ت703 ه)، والمؤرخ عبد الرزاق بن الفوّطي البغدادي (ت723 هـ) (الدكتور خالد كبير علال / الحركة العلمية الحنبلية و أثرها في المشرق الإسلامي / رسالة الدكتوراه- محمد الصياد/ اندماج الصوفية والمحدّثين والفقهاء/ موقع الجزيره - فقهاء حنابلة سلكوا التصوف/ منتدى السادة الرفاعية فى فلسطين /غزة).
اقرار ائمه المذهب الحنبلى مرورهم بتجارب روحيه : منهم الإمام ابن الجوزى فى كتاب " صيد الخاطر"، والإمام الهروى فى كتابه "منازل السائرين " والامام ابن القيم فى كتابه" مدارج السالكين" – وهو شرح للكتاب السابق- والإمام ابن تيمية فى العديد من الاقوال المنقولة عنه بواسطة تلميذه ابن القيم .
الدعوه لاصلاح التصوف: كما دعا العديد من اعلام المذهب الحنبلى الى اصلاح التصوف- شانهم فى ذلك شان العديد من اعلام التصوف – مما يعنى انهم لم يتخذوا موقف الرفض المطلق منه - وفى هذا السياق دعوا الى تحرير التصوف من العديد من المظاهر السالبة ، التى اختلطت بالتصوف فى مراحل متأخرة من مراحل تطوره - دون ان تعبر عن جوهره - ومنها :
1- قلّة العناية بالعلم الشرعى عند بعض متاخرى الصوفيه: يقول ابن الجوزي في )صيد الخاطر((ولمّا قلّ علم الصوفية بالشرع فصدر منهم من الأفعال والأقوال مَا لا يحلّ مثلما قد ذكرنا... )
2- وضع بعض جهله الصوفيه للأحاديث: يقول النووي (وقد سلك مسلكَهم " اى الكرّامية فى وضعهم الحديث" بعضُ الجهلة المتَّسِمين بسمة الزهاد ترغيبا في الخير، في زعمهم الباطل)
3- خلط بعض متاخرى الصوفيه بين الكرامات وغسرها من خرافات اوالاحوال الشيطانيه: يقول الذهبيّ في ‘تاريخ الإسلام(ومن هذه الأحوال الشيطانية التي تُضِلّ العامة: أكلُ الحيات، ودخولُ النار، والمشْيُ في الهواء، ممن يتعانى المعاصي، ويُخِلّ بالواجبات)
4- قول انصار التصوف البدعى بالحلول والاتحاد ووحده الوجود: حيث هاجم اعلام المذهب الحنبلى التصوف البدعى القائم على المفاهيم الاجنبيه كالحلول والاتحاد ووحده الوجود.
الثناء على اعلام التصوف المنضبط بالشرع: فنطالع على سبيل المثال لا الحصر - الامام الذهبيّ يثنى على عدد كبير من أعلام التصوف المنضبط بالشرع، فيقول -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن إدريس الخَوْلاني الزاهد (ت 211هـ/826م) إنه (كان يقال: إنه من الأبدال، وكان يشبَّه ببشرٍ الحافي (ت 226هـ/841م) في فضله وعبادته). ويصف أبا البقاء التَّفْليسي الصوفي (ت 631هـ/1234م) بأنه (كان صوفيا جليلا معظما نبيلا، له معرفة بالفقه والأصول والعربية والأخبار والشعر والسلوك، وكان صاحب رياضات ومجاهدات) .
اقرارعلماء المذهب الحنبلى بجمع العديد من الشيوخ بين المذهب الحنبلى والتصوف:
يقول الذهبيّ في " تاريخ الإسلام" عن الشيخ عبد القادر الجِيلي (هو صاحب الكرامات والمقامات وشيخ الحنابلة..، سمع الحديث.. وكان إمام زمانه وقطب عصره، وشيخ شيوخ الوقت بلا مدافعة). و ينقل ابن رجب شهادة ابن تيمية بإمامة الهروي في التصوف والحديث(وقال شيخ الإسلام أبو العباس (= ابن تيمية) في كتاب ‘الأجوبة المصرية‘: شيخُ الإسلام (= الهروي) مشهور معظَّم عند الناس، هو إمام في الحديث والتصوف والتفسير، وهو في الفقه على مذهب أهل الحديث، يعظِّم [الإماميْن] الشافعيَّ (ت 204هـ/820م) وأحمدَ).
انتماء العديد من فقهاء مذاهب اهل السنه الفقهيه للتصوف: فقد اثبتت المراجع والمصادر انتماء العديد من فقهاء مذاهب اهل السنه الفقهيه – بما فيها المذهب الفقهى الحنبلى- للتصوف: فقد ترجم الذهبي - في ‘تاريخ الإسلام‘ وغيره- لنحو عشرة من فقهاء الحنابلة ،فوصف كلا منهم بـ"الحنبلي الصوفي" أو "الصوفي الحنبلي"، وكانت وفياتهم بين سنة 634هـ/1236م و719/1319م . ومن أعلام الصوفيّة المالكية: إسماعيل المَنْفَلوطي (ت 652هـ/1254م) الذي يصفه السيوطي -في ‘حُسن المحاضرة‘- بأنه "كان ممن جمع الشريعة والحقيقة، فقيهاً مالكيا له كرامات ومكاشفات ومعارف صوفية".ومن أعلام الصوفيّة الشافعية ولعله من أقدمهم: محمد بن إسماعيل العلوي (ت 393هـ/1004م) -وهو من العلماء الصوفية الجامعين بين الفقه والحديث- الذي يقول عنه الخطيب البغدادي: "نشأ ببغداد ودرس فقه الشافعي على أبي علي بن أبي هُريرة (شيخ الشافعية ت 345هـ/956م)‏، وسافر إلى الشام وصحب الصوفية وصار كبيرا فيهم..، وكتب الحديث.. وقد حدَّث ببغداد".. ومن صوفية الشافعية الإمام العز بن عبد السلام ، الذى قال عنه السبكي في ‘طبقات الشافعية‘(وذُكر أن الشيخ عز الدين لبس خِرقة التصوف من الشيخ شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي وأخذ عنه وذكر أنه كان يقرأ بين يديه رسالة القُشيري)..
الموقف الحقيقى لائمه المذهب الحنبلى من التصوف يتجاوز موقفى الرفض و القبول المطلقين الى الموقف التقويمى: فالموقف الحقيقى لائمه المذهب الحنبلى من التصوف يتجاوز موقفى الرفض و القبول المطلقين، الى الموقف التقويمى" النقدى " الذى مضمونه اخذ الايجابيات وما اتسق مع اصول الدين النصيه الثابته، ورفض السلبيات وما تناقض مع هذه الاصول . –وهو الموقف الذى دعي منهج التفكير الاسلامى إلى الالتزام به، بعد تقييده بمعايير موضوعيه مطلقه ، هي النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة، كما فى قوله تعالى: ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
الإمام أحمد بن حنبل: رغم اعتراضه على كثير من سلوكيات الصوفية فى عصره،لكن فى ذات الوقت ينقل عنه وصف الصوفيه بأوصاف ايجابيه، حيث نجد في الجزء الثاني من طبقات الحنابلة للقاضي محمد بن أبي يعلي مقدمة الشيخ أبي محمد بن تميم النبلي في عقيدة الإمام أحمد بن حنبل (قد سئل مرة عن المريد فقال أن يكون مع الله كما يريد وأن يترك كل ما يريد لما يريد… وكان يعظم الصوفية ويكرمهم وقال وقد سئل عنهم وقيل له يجلسون في المساجد فقال: العلم أجلسهم). و نقل إبراهيم القلانسي أن أحمد قال عن الصوفية :لا أعلم أقواما أفضل منهم،
قيل : إنهم يستمعون ويتواجدون، قال : دعوهم يفرحوا مع الله ساعة
(الفروع لإبن مفلح المقدسي الحنبلي ج3ص152دار إحياء التراث العربي
ونقلها عنه البهوتي كشاف القناع)
الامام ابن تيميه : وهناك الكثير من النصوص التى توضح ان الموقف الحقيقى لابن تيميه من التصوف ليس الرفض المطلق بل الموقف النقدى التقويمى ،حيث يقول (ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنزع فيه تنازع الناس في طريقهم؛ فطائفة ذمت ” الصوفية والتصوف ” ، وقالوا : إنهم مبتدعون، خارجون عن السنة... وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق، وأكملهم بعد الأنبياء... وكلا طرفي هذه الأمور ذميم .و ” الصواب ” أنهم مجتهدون في طاعة اللّه، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة اللّه، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين....ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه ...)، ويقول (وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم … فَهَذَا أَصْلُ التَّصَوُّفِ . ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَشَعَّبَ وَتَنَوَّعَ وَصَارَتْ الصُّوفِيَّةُ ” ثَلاثَةَ أَصْنَافٍ –1 صُوفِيَّةُ الْحَقَائِقِ 2 – وَصُوفِيَّةُ الأَرْزَاقِ 3 – وَصُوفِيَّةُ الرَّسْمِ . )(مجموع الفتاوى (14/176:.
الامام ابن القيم : كما أنه الموقف الحقيقي لابن القيم الذي يقول “(فاعلم إن في لسان القوم من الاستعارات وإطلاق العالم وإرادة الخاص وإطلاق اللفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه ما ليس على لسان أحد من الطوائف غيرهم ... وصار هذا سبباً لفتنة طائفتين: طائفة تعلقوا عليهم بظاهر عباراتهم فبدعوهم وظلموهم. والطائفة الثانية حجبوا بما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائهم وحسن معاملتهم عن رؤية شطحاتهم ونقصانها فسحبوا عليها زيل المحاسن وأجروا حكم القبول وهؤلاء أيضاً معتدون مفرطون.والطائفة الثالثة: وهم أهل العدل والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح بل قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد)(مدارج السالكين، ج3) .
الشيخ محمد بن عبد الوهاب : كما ان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رغم ما هو معروف من حمله على كثير من عقائد وسلوكيات الصوفية ، فان بعض النصوص المنقولة عنه تتضمن إشارات إلى جوانب ايجابيه عند الصوفية ، ففي القسم الثالث من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب جزء (فتاوى ومسائل) قام بجمعها الشيخ صالح بن عبد الرحمن الأطرم ومحمد عبد الرازق الدويسي والصفحة رقم (31) المسألة الخامسة “اعلم أرشدك الله – أن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى الذي هو العلم النافع ودين الحق الذي العمل الصالح إذا كان من ينسب إلى الدين: منهم من يتعانى بالعلم والفقه ويقول به كالفقهاء ومنهم من يتعانى بالعبادة طلب الآخرة كالصوفية. وبعث الله بنبيه بهذا الدين الجامع للنوعين) ( عبد الحفيظ بن عبد الحق المكي، موقف أئمة الحركة السلفية من التصوف والتصوف، دار لسلام القاهرة، ط 1988م، ص15). وفي القسم الثاني من مؤلفاته (الفقه) المجلد الثاني ص (4) في رسالة (أربع قواعد تدور الأحكام عليها) يقول ” اعلم رحمك الله إن أربع هذه الكلمات يدور عليها الدين سواء كان المتكلم يتكلم في علم التفسير أو في علم الأصول أو في علم أعمال القلوب الذي يسمى علم السلوك…” وفي (لحق المصنفات) “هذه مسألة” صفحة (124) قال ” فنفس محبته أصل عبادته والشرك فيها أصل الشرك في عبادته ولهذا كان مشايخ الصوفية العارفون يوصون كثيراً بمتابعة العلم قال بعضهم “ما ترك أحد شيئاً من السنة إلا لكبره في نفسه”.
مفاهيم نظريه من التصوف الحنبلى:
الأحوال والمقامات عند الإمام ابن القيم:
موقف الامام ابن القيم من الأحوال والمقامات والتصور الصوفي لها: والإمام ابن القيم لم ينكر التطور الروحي ” الذي عبر عنه بمصطلح السير إلى الله” ،ولم ينفى الأحوال والمقامات”، باعتبارها درجات هذا التطور الروحي ، ولم يرفض التصور الصوفي لهذا الترقي الروحي ودرجاته بالجملة، بل ميز بين تصور التصوف “الحلولى ” (القائم على مفاهيم بدعية أجنبيه كالحلول والاتحاد ووحده الوجود)، والقائم على أن لهذا الترقي الروحي نهاية هي الوصول إلى الله تعالى “بالحلول أو الاتحاد او الوحدة “) ، وان كل درجه من درجات هذا الترقي الروحي تنعدم بالانتقال إلى درجة اعلي ، وهو يرفض هذا التصور جملة وتفصيلا ،لأنه يتعارض مع العقيدة الإسلامية . أما تصور التصوف “السني “لهذا الترقي الروحي ودرجاته “الأحوال والمقامات”، فيقبله على وجه الإجمال،ويعمل على تأصيله ،من خلال إيراد النصوص الدالة عليه ، مع إشارته إلى بوجود أوجه خطأ فيه يجب تصوبها،وهو في كل الأحوال ينطلق من فلسفة إسلامية قائمة على انه ليس للترقي الروحي للإنسان نهاية ، وأن كل درجة من درجات هذا الترقي الروحي لا تنعدم بالانتقال إلى درجة اعلي ، حيث يقول (اعلم أن ترتيب هذه المقامات ليس باعتبار أن السالك يقطع المقام ويفارقه وينتقل منه إلى التالي بعده ، كمنازل السير الحسي، وإنما هذا الترتيب ترتيب المشروط المتوقف على شرط المصاحب له )( مدارج السالكين: 1/ 108 -109)
المقامات عند الامام ابن القيم: اتساقا مع موقفه الايجابي – التقويمي من الأحوال والمقامات تناول الإمام ابن القيم المقامات:
التوبة: حيث أشار إلى مقام التوبة ، فعرف التوبة بأنها ( حقيقة التوبة هي الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على أن لا يعاوده في المستقبل ، والثلاثة تجتمع في الوقت الذي تقع فيه التوبة)( مدارج السالكين: 1/ ذ44) ، ثم بين شروط التوبة النصوح فقال (النصوح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء: الأول تعميم جميع الذنوب… والثاني إجماع العزم والصدق بكليته عليها… والثالث :تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ) (مدارج السالكين:1/ 138(.
الانابه: كما أشار إلى مقام الانابه ، حيث عرف الانابه بأنها ( عكوف القلب على الهل ، كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته، وذكره بالإجلال والتعظيم وعكوف الجوارح على طاعته ،بالإخلاص له والمتابعة لرسوله )( مدارج السالكين: 1/ 328)، ثم قسم الإنابة إلى عدة أقسام، حيث قال ( والناس في إنابتهم إلى الله إلى درجات عده : فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي،وهذه الانابه مصدرها مطالعه الوعيد …ومنهم المنيب إليه بالدخول في أنواع العبادات والقربات…وهذه الانابه مصدرها الرجاء ومطالعة الوعد.. ومنهم المنيب إلى الله بالتضرع والدعاء… والافتقار إليه والرغبة وسؤال الحاجات كلها منه. ومصدره هذه الانابه شهود الفضل والمنه والكرم والقدرة ..)( طريق الهجرتين: ص 313- 314) ….ثم يرى أن أعلى أنواع الانابات انابه الروح لخالقها سبحانه(المرجع السابق : ص 314(.
الزهد: كما أورد الإمام ابن القيم أقوال العلماء في تعريف الزهد، وأشار إلى تعريف الامام ابن تيمية له بأنه” ترك ما لا ينفع في الاخره، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة “. ثم أشار إلى أقسام الزهد فقال ( أقسامه:احدهما فرض على كل مسلم وهو الزهد في الحرام .. الثاني: زهد مستحب وهو الزهد في المكروه وفضول المباحات… الثالث : زهد الداخلين في هذا الشأن وهم المشمرون في السير إلى اله ، وهو نوعان: احدهما الزهد في الدنيا جمله وليس تخليها من اليد ولا إخراجها وقعوده صفرا منها ،وإنما المراد إخراجها من القلب بالكلية، فلا يلتفت إليها ولا يدعها تساكن قلبه …النوع الثاني: الزهد في نفسك وهو أصعب الأقسام، وهو ذبحها بغير سكين وهو نوعان احدهما وسيله وبدايه :وهى أن تميتها فلا يبقى بها عندك من القدر شي، فلا تغضب لها ولا ترضى لها ولا تنتصر لها ولا تنتقم لها … قد سلبت عرضها ليوم فقرها وفاقتها ..وهذا وان كان ذبحا لها واماته عن طباعها وأخلاقها فهو عين حياتها وصحتها.. النوع الثاني : غاية وكمال : وهو ان ن يبذلها للمحبوب جمله بحيث لا يستبقى منها شيئا ، بل يزهد فيها زهد المحب في قدر خسيس من ماله قد تعلقت رغيه محبوبة به) (طريق الهجرتين :ص 453 – 458 (
الاستقامة: كما أشار إلى مقام الاستقامة ، فعرف الاستقامة بأنها (كلمه جامعه آخذه بمجامع الدين ،وهى القيام بن يدى الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد وتتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات…)( المدارج: 2/ 80 )،وبين الطرق الموصلة إليها فقال ( طريق قريب يوصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال ، وهى شيئان :أحدهما حراسة الخواطر وحفظها والحذر من إهمالها والاسترسال معها.. الثاني صدق التأهب للقاء الله عز وجل(..
التوكل: كما أشار إلى مقام التوكل، وبين شروطه فقال ( العبد لا يستكمل مقام التوكل إلا بثمانية أمور هي : 1- المعرفة بالرب وصفاته… 2- إثبات الأسباب والمسببات، والأخذ بالأسباب مع عدم الركون إليها… 3- رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل… 4- اعتماد القلب على الله واستناده وسكونه إليه… 5- حسن الظن بالله…. 6- استسلام القلب له …7- التفويض… 8- الرضا بالقدر…) ( مدارج السالكين 2/ 90-94(...
الصبر: كما أشار إلى مقام الصبر الذي عرفه بأنه( حبس النفس عن الجزع والتسخط ، وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن التشويش) ( مدارج السالكين : 2/119)،كما قسم الصبر إلى أقسام متعددة هي: 1/ صبر بالله وهو الاستعانة به سبحانه ( واصبر وما صبرك الا بالله)…2/ صبر لله : أن يكون الباعث على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه…3/ صبر مع الله: دوران العبد مع مراد الله الدينى منه ومع أحكامه الدينية : وهو ثلاثة أقسام ا/ صبر على الأوامر والطاعات،ب/ وصبر عن المناهى والمعاصي،ج/ صبر على المحن والمصائب)، وقال ان كف اللسان عن الشكوى من لوازم الصبر، إلا انه قال انه لا يقدح في الصبر” إخبار المخلوق بالحال للاستعانة بإرشاده أو معاونته للتوصل إلى زوال ضرره كاخبار الطبيب بشكايته وأخبار المظلوم من ينتصر به لحاله..”( عده الصابرين : ص 270(
الصدق:كما أشار إلى مقام الصبر فقال ” منزله القوم الأعظم الذي منه نشا جميع منازل السالكين والطريق الأقوى الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين”
الذكر:كما أشار إلى مقام الذكر فقال ” الذكر منشور الولاية تأذى من أعطيه اتصل ومن منعه عزل”كما بين أقسامه فقال (… أقسامه القسم الأول: ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته والثناء عليه بهما ،وهذا القسم نوعان: الأول: إنشاء الثناء عليه من الذاكر ،وهو المذكور في الأحاديث …الثاني الخبر عن الرب تعالى بأحكام أسمائه وصفاته ،وأفضل هذا النوع الثناء عليه بما أثنى عليه على نفسه وبما اثنى عليه رسوله ….القسم الثاني : ذكر أمره ونهيه وإحكامه وهى نوعان : ذكره بذلك إخبارا عنه بأنه آمر بكذا.. ذكره عند أمره فيبادر إليه ،وعند نهيه فيهرب منه ..)(الوابل الصيب ص 178- 181(
الاحوال عند الامام ابن القيم :كما تناول الامام ابن القيم الاحوال :
الرجاء :فأشار إلى حال الرجاء الذي عرفه بأنه ( حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب وهو الله والدار الآخرة ويطيب لها السير….)( مدارج السالكين : 2/ 27 ) كما أشار إلى أن الفرق بينه وبين التمني أن التمني يكون مع الكسل، ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد ، والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل )( المصدر السابق،نفس المكان).كما أشار إلى القيمة الكبيرة للرجاء فقال ( الرجاء من اجل المنازل وأعلاها وأشرفها ، وعليه وعلى الخوف مدار السير الى الله ، وقد مدح الله أهله وأثنى عليهم فقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر) ( المدارج: 2/ 31 )، كما أشار إلى ضرورة الجمع بين الرجاء والخوف فقال ( القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه،/ فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران .. )(مدارج السالكين: 1/ 390(...
الخوف: كما أشار الى حال الخوف فقال ( الخوف من اجل منازل الطريق، وأنفعها للقلب وهى فرض على كل احد قال تعالى ” فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين”) (مدارج السالكين: 1/ 386)، كما ميز بين الوجل والخوف والخشية والرهبة (.. فالخوف حركة ، والخشية انجماع وانقباض وسكون ، أما الرهبة فهي إمعان في الهرب من المكروه ، أما الوجل فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه….أما الهيبة فخوف مقارن للتعظيم والاجلال… والاجلال تعظيم مقرون بالحب…..) اتساقا مع التمييز السابق قال ان ” الخوف لعامة المؤمنين ، والخشية للعلماء ، والهيبة للمحبين، والاجلال للمقربين) ( مدارج السالكين 1/ 386 -387)...
المحبة: كما أشار إلى حال المحبة، فقال ان المحبة هي ” المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون واليها شخص العاملون والى علمها شمر السابقون وعليها تفانى المحبون..)( مدارج السالكين : 3/ 807)،وأشار إلى لوازم المحبة وهى:1- توحيد الله وإفراده بجميع أنواع العبادة… 2-موافقة الله في إتباع ما يأمر به واجتناب ما ينهى عنه… 3- محبه القران الكريم …
المراقبة: كما اشار إلى حال المراقبة ، فعرف المراقبة بأنها ( دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى ظاهره وباطنه… والمراقبة التعبد بأسمائه الرقيب والحفيظ والعليم والسميع والبصير فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة)( المدارج 2/ 49 – 50(...
الإخلاص: كما اشار إلى حال الإخلاص،فعرف الإخلاص بأنه ( هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة…) ،وأشار إلى أفات الإخلاص فقال ( يعرض للعامل في عمله ثلاثة آفات: رؤيته وملاحظته .. وطلب العوض عنه ..ورضاه به وسكونه اليه ، فالذي يخلصه من رؤية عمله مشاهدته لمنه الله عليه وفضله وتوفيقه له.. والذى يخلصه من طلب العوض عنه علمه بأنه عبد محض..والذي يخلصه من رضاه بعمله أمرين: أحدهما مطالعته عيوبه وآفاته.. الثاني: علمه بما يستحقه الرب من حقوق العبودية.. )( مدارج السالكين 2/ 70- 72).
الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات: https://drsabrikhalil.wordpress.com