إعادة تعريف مفهوم الفلسفة كفلسفة"حكمة "وعلم وفن "تكنيك" لأسس التفكير(1)
د. صبرى محمد خليل/ استاذ فلسفه القيم الاسلاميه فى جامعه الخرطوم
sabri.m.khalil@gmail.com


تمهيد(ملخص الدراسه( :تهدف هذه الدراسه الى إعادة تعريف مفهوم الفلسفة ، انطلاقا من كون الفلسفة احد المجالات المعرفية الأساسية " بالإضافة الى الدين والعلم"، وكون العلاقة – الصحيحة - بينهما علاقة تكامل وتحديد ، وليست علاقه تناقض وإلغاء. و المشاكل الفلسفية هى محصلة تناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين ، لكن على مستوى كلي- مجرد "نظرى" ، أي منظور إليها من جهة معينة هي الأصول الفكرية "الكلية، المجردة" لهذه المشاكل، فان موضوع المجال المعرفي الفلسفي هو اسس التفكير.واستنادا الى شمول المجال المعرفي الفلسفى، باعتباره يربط بين مجالات معرفية أساسية اخرى، فانه يجب تقرير ان له ثلاثة مستويات اساسيه، ساهم الخلط وعدم التمييز بينها فى تقديم تعريفات قاصره لهذا المجال المعرفي.المستوى الاول يمكن ان نطلق عليه اسم " فلسفة الفلسفة " ، ويشمل المسلمات التى ينطلق منها كل نشاط عقلاني فلسفي- استدلالي- وفى ذات الوقت سابقه عليه وغير خاضعة له " فهى ميتافيزيقية -غيبية بالاصطلاح القرآني- بهذا المعنى " ، وتعريف الفلسفة طبقا لهذا المستوى هى المسلمات الميتافيزيقية" الغيبية"، التى تستند اليها أسس التفكير.المستوى الثاني من مستوياته يمكن ان نطلق عليه اسم "علم الفلسفه"، ويشمل الوظيفة المنهجية للفلسفه،المتضمنه لخصائص التفكير الفلسفى" الذى يتضمن خصائص القضايا الفلسفية والمنهج الفلسفي" ، والقوانين الموضوعية "السنن الإلهية بالمصطلح القرآني" التى يستند إليها التفكير الفلسفى طبقا لهذه الخصائص ، والفلسفة طبقا لهذا المستوى هى قوانين "سنن " أسس التفكير.المستوى الثالث من مستويات المجال المعرفي الفلسفي يمكن ان نطلق عليه اسم "فن- او تكنيك الفلسفه"، ويشمل تطبيقات واساليب اسس التفكير.
متن الدراسه التفصيلي:
المجالات المعرفيه الثلاثه"الدين والفلسفة والعلم" والعلاقة الصحيحة بينهما:
خصوصية نسبية وليست مطلقة: لكل مجال من هذه المجالات المعرفية مشاكل خاصة يحاول أن يضع لها حلول، ومنهج خاص لحلها. لكن يجب ملاحظة أن كون لكل مجال مشاكل خاصة ، لا يعني أنها قائمة بذاتها ومستقلة عن المشاكل التي يطرحها واقع الناس المعين في الزمان والمكان، بل يعني أن هذه المشاكل ما هي إلا محصلة لتناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين لكن على مستوى معين (أي منظور إليها من جهة معينة(.
اولا: مجال الفلسفة: فالمشاكل الفلسفية (مثل الوجود، أو المعرفة أو القيم) ما هي إلا محصلة تناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين ، لكن على مستوى كلي مجرد ، أي منظور إليها من جهة معينة هي الأصول الفكرية (الكلية، المجردة) لهذه المشاكل (الجزئية العينية).

ثانيا: مجال العلم: والمشاكل العلمية ما هي إلا محصلة لتناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين، لكن على مستوى جزئي عيني، أي منظور إليها من جهة معينة هي البحث في قوانين تحول الطبيعة وتطور الإنسان ، والتي لابد أن تأتي حلول هذه المشاكل على مقتضاها لتكون صحيحة.وهذه المشاكل الخاصة تقتضي منهج خاص في تناولها هو المنهج العلمي ، والذي يتصف بخصائص - أو مراحل- معينة هي(1) الملاحظة أي مراقبة مفردات الظاهرة ورصدها خلال حركتها (2) الافتراض: أي محاولة افتراض قانون لتلك الحركة ، من اطرادها على قاعدة واحدة في ظروف مماثلة (3) التحقق: إذ الممارسة هي اختبار مستمر لصحة القانون.

ثالثا: مجال الدين: الدين يتناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين ، ولكن على مستوى معين ، اى منظور إليها من جهة معينة ، هي علاقتها - من حيث جزء من الواقع المحدود - بالمطلق، فالمطلق لا يلغي المحدود بل يحده، وبه تصبح حركة الإنسان ليس مجرد فعل غائي- اي مجرد تطور - بل تتحول إلى فعل غائي محدود بفعل مطلق (الربوبية)، وغاية مطلقة (الالوهية)، أي كدح إلى الله بتعبير القرآن، فيحدد للإنسان نوع المشاكل التي يواجهها ،وطريقة العلم بها ، ويحدد نمط الفكر الذي يصوغ هذه الحلول، كما يحدد أسلوب العمل اللازم لتنفيذها.ولما كان المستوى الذي يتناول من خلاله الدين ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين هو المستوى المطلق عن قيود الزمان والمكان، وبالتالي لا يخضع للتغير أو التطور في المكان وخلال الزمان، ولما كانت الحواس والعقل لا ينصبان إلا على ما هو محدود المكان وخلال الزمان وبالتالي يخضع للتغير والتطور، فإن وسيلة المعرفة – الرئيسيه- فى مجال الدين هي الوحي من حيث هو ظهور ذاتي للعلم الإلهي المطلق. والتسليم بصحة الوحي قائم على الإيمان، لكن هذا لا يلغي دور الحواس أو العقل. ومعنى الإيمان لغة التصديق كما في قوله تعالى على لسان اخوه يوسف (عليه السلام)(وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين)، ومعناه الاصطلاحي هو التسليم بصحة فكرة ، لا يمكن إثباتها بالتجربة والاختبار العلميين - لان موضوعها غير محدود بالزمان والمكان ، ولكن يمكن إثبات صحتها بالاستدلال العقلي ، بما هو انتقال الذهن من حكم إلى آخر لعلاقة ضرورية بينهما.قال تعالى (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) (البقرة:242(.
العلاقة الصحيحة بين المجالات الثلاثة: ويمكن تفسير العلاقة بين المجالات المعرفية لكل من الدين والفلسفة والعلم ، باعتبار أنها محاولات لتفسير ذات الوجود، أي تتناول ذات الوجود، لكن على مستويات متعددة (أي منظور إليه من جهات متعددة).فالدين يتناول الوجود على مستوى ماهوي، أي الإجابة على السؤال ما هو الوجود؟ (أي ماهية القوة التي تحرك الوجود، بداية الوجود، نهايته). والعلم يتناول الوجود على مستوى كيفي، أي البحث في ضوابط الحركة في الكون واتجاهاتها.والفلسفة تتناول الوجود على مستوى لماذي (أي الإجابة على السؤال لماذا)،اى غايات الوجود الإنسانى ، كما هى متحققة فى قيم كالحق والخير والجمال"ونضيف قيمه المقدس "الدين"- طبعا على مستوى كلى مجرد"نظرى"- ..) .كما يمكن تناول العلاقة بين المجالات الثلاثة من ناحية الوجود بأن كل درجة من درجات الوجود (أو مستوى من مستوياته) هي بالنسبة للدرجة الأدنى بمثابة الكل للجزء يحده فيكمله ويغنيه ولا يلغيه، وبالتالي فإن العلاقة بينهم (باعتبار ان كل منهم اختص اختصوا بتفسير إحدى هذه الدرجات "أو المستويات") هي علاقة تحديد لا إلغاء. فالفلسفة بالنسبة للعلم هي بمثابة الكل للجزء تحده ولا تلغيه، والدين بالنسبة للفلسفة (وبالتالي للعلم) هي علاقة المطلق بالمحدود يحده فيكمله ويغنيه ولا يلغيه.كما يمكن تناول هذه العلاقة من ناحية المنهج بأن العلم يبحث في المحدود –المتغير "الوجود الشهادى المحدود الزمان والمكان"، والدين يبحث في المطلق – الثابت"الوجود الغيبي المطلق عن قيود الزمان والمكان". أما الفلسفة فتبحث في الجمع بين المطلق-الثابت، والمحدود- المتغير، " الوجود العام "الكلي – المجرد" ، ببعديه الشهادى والغيبى".
موضوع المجال المعرفي الفلسفي هو اسس التفكير: اتساقا مع التحديد السابق للمجال المعرفي الفلسفي ، وكون المشاكل الفلسفية هى محصلة تناول ذات المشاكل التي يطرحها الواقع المعين ، لكن على مستوى كلي- مجرد "نظرى" ، أي منظور إليها من جهة معينة هي الأصول الفكرية "الكلية، المجردة" لهذه المشاكل. فإن موضوع المجال المعرفي الفلسفي هو اسس التفكير.
المستويات الثلاثة للمجال المعرفي الفلسفي: واستنادا الى الشمول للمجال المعرفي الفلسفي- باعتباره يربط بين مجالات معرفية أساسية اخرى كما اشرنا اعلاه - فانه يجب تقرير ان له ثلاثة مستويات اساسيه،ساهم الخلط بينها ، فى تقديم تعريفات قاصره له.
المستوى الأول : فلسفة الفلسفة مسلمات أسس التفكير) : المستوى الاول يمكن ان نطلق عليه اسم " فلسفة الفلسفة " ، ويشمل المسلمات التى ينطلق منها كل نشاط عقلاني فلسفي- استدلالي- وفى ذات الوقت سابقه عليه وغير خاضعة له " فهى ميتافيزيقية -غيبية بالاصطلاح القرانى- بهذا المعنى " - كما سنوضح ادناه بشى من التفصيل– وتعريف الفلسفه طبقا لهذا المستوى هى المسلمات الميتافيزيقية" الغيبية"، التى تستند اليها اسس التفكير.
حدوده: وهذا المستوى من مستويات المجال المعرفي الفلسفي يشمل:
اولا: اسبقيه الإيمان بالغيب كأساس للدين (أو الميتافيزيقا بالمصطلح الفلسفي الغربي) على كل نشاط عقلاني” فلسفي : يتضمن هذا المستوى أسبقية الإيمان على الاستدلال ، ذلك إن الإيمان بالغيب كأساس للدين (أو الميتافيزيقا بالمصطلح الفلسفي الغربي) سابق كل نشاط عقلاني” فلسفي “، ذلك أن التفكير العقلاني – ومن أشكاله التفكير الفلسفي – يستند إلى المنهج الاستدلالي – الاستنباطي ، والاستدلال – أو الاستنباط هو عملية الانتقال ” الصوري “من مقدمه عقليه إلى نتيجة عقلية ، وهو ينطلق من مسلمة ، اى مقدمة “مسلم “بصحتها ، لأنها غير قابله للتحقق من صحتها بالتجربة والاختبار العلميين ” لأنها مجرده وليست عينيه “، ولأنها سابقة على عملية الاستدلال وبالتالي غير خاضعة لها ” فعمليه الاستدلال مقصورة على الانتقال منها إلى النتيجة” . وعقليه هذه المقدمة متصلة بشكلها )صورتها( ، اى كونها خاضعة لمعيار الاتساق ” المنطقي “، وليست لها صلة بمضمونها (مصدرها)، اى لا يلزم ضرورة ان يكون مصدر هذه المقدمة العقل (كما ترى الفلسفة العقلانية الغربية ) إلا في حالة الأفكار الفطرية ، فقد يكون مصدرها الحواس كما في حالة تناولها لعالم الشهادة (وهو الأمر الذي قررته الفلسفات التجريبية الغربية ) ،وقد يكون مصدرها الوحي في حالة تناولها لعالم الغيب(وهو الأمر الذي قررته الأديان والفلسفات الدينية ( ، بناء على ما سبق فإن كل مذهب فلسفي- بما في ذلك المذاهب التي تدعى رفض الميتافيزيقا والدين – إنما ينطلق من مسلمات – ميتافيزيقية – غيبيه – لأنها غير قابله للنفي أو الإثبات بالتجربة العلمية “باعتبار أنها نظرية ” ،وسابقه على النشاط الاستدلالي لواضعه ،” باعتبار أن الاستدلال مقصور على استنباطه نتيجة معينه من مقدمه معينة يسلم بصحتها.ومرجع هذه الأسبقية المعرفية للإيمان بالغيب (الذي هو أساس الدين )على الاستقراء الحسي (الذي هو أساس العلم ) والاستدلال العقلاني (الذي هو أساس الفلسفة ) أن للوجود الانسانى أبعاد متعددة ، متفاوتة في درجه الشمول، فكل بعد بالنسبة للبعد الذي يليه بمثابة الكل للجزء ، يحده فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه ، وهذه الأبعاد هي البعد الروحي” الذي يتناوله الدين” ، فالبعد العقلي” الذي يتناوله التفكير العقلاني من أشكاله التفكير الفلسفي “، البعد الوجداني ” الذي يتناوله الفن والأدب”، البعد المادي العضوي و الغريزي ” الذي يتناوله العلم.

ثانيا:الحكمة والوظيفه الروحية- القيميه للفلسفه: كما يتضمن هذا المستوى من مستويات المجال المعرفي الفلسفي الوظيفة الروحية – القيميه للفلسفه، المتصلة بالأبعاد الروحية والقيمية للوجود الانسانى، ممثله فى الحكمة كغاية قيميه وروحيه. هذه الوظيفه تعرضت للتعطيل فى تعريف الفلسفة فى المدارس الفلسفية الغربية "القديمه و الحديثه والمعاصره" التى تبنت مواقف "ميتافيزيقية" شكيه او الحاديه ، كرد فعل "انفعالي غير عقلانى " على كون الأديان الوضعية الشرقية واليونانية القديمه – التى كانت نقطه بدايتها - كانت مختلطه بانماط التفكير الخرافى والاسطورى،وما لزم من ذلك من فصل للفلسفه "الحكمه التكوينيه " عن الدين "الحكمه التكليفية" . فركزت هذه المدارس الفلسفية فى تعريفها للفلسفة على الوظيفة المنهجية للفلسفه، المتصلة بالابعاد المعرفية العقلية للوجود الانسانى، وتجاهلت الوظائف الأخرى للفلسفة والمتضمنة لوظيفتها الروحية القيمية. وهذا الموقف المعطل لهذه الوظيفه للفلسفه يتعارض مع كون هذه الوظيفة كانت متحققة فى الحكمة الشرقيه القديمه - التى تمثل الاصل التاريخي للفلسفة- لأن الفلسفة فيها كانت غير منفصلة عن الدين، رغم ما شابها من أوجه قصور ،نتيجه لاسباب متعددة ، منها التصور الخاطىء للعلاقة بين الدين والفلسفة "علاقة خلط وليست علاقة ارتباط وتمييز"، والانطلاق من تصورات غير صحيحة للعلاقة بين الخالق والمخلوق" كمفهوم وحده الوجود". كما يتعارض هذا الموقف المعطل للوظيفة الروحية – القيميه للفلسفه مع كون هذه الوظيفة كانت متحققة فى الدلالة الأصلية لمصطلح فلسفة فى الفكر الفلسفي الغربي ( لفظ يوناني مشتق من كلمتي "فيلو" و "سوفيا" أي محبة الحكمة )، ففيه تقرير للحكمه كمفهوم روحى – قيمى . وهناك العديد من الفلسفات الوضعية والدينية الغربية والشرقية- كالرواقيه والابيقوريه والبوذبه الجينيه- تلتقي مع المفهوم الاسلامى للفلسفه ممثلا فى مفهوم الحكمة القرآني- والذى سنوضحه بشى من التفصيل ادناه- فى تفعيل الوظيفة الروحية – القيمة للفلسفة ، باتخاذها تحقيق مضمون الطمأنينة والسكينة غايات لها ، من خلال بحثها عن فاعليه روحيه – معرفية – نفسيه، تهدف إلى ضبط أو التحكم بالانفعالات السلبية كالحزن والخوف.. . ولكنها استندت خلال بحثها إلى مفاهيم خاطئه " كمفاهيم الوحدة المثالية والمادية"، وهو ما أدى بها إلى تبني تصورات سلبية لمضمون المفهومين، يلزم منها إلغاء بعض أبعاد الوجود الانسانى “كالوعي أو إدراك الواقع،أو الاراده …”
ثالثا: قضية تأصيل الفلسفة مرتبطة بهذا المستوى:هناك ثلاثة مواقف من مشكلة تأصيل الفلسفة - هي ذات المواقف من مشكلة الأصالة والمعاصرة -.
الموقف الأول: التقليد - الرفض المطلق لإسهامات المجتمعات الاخرى- اصاله بدون معاصره: يقوم على إن تحقيق التقدم الحضاري للمجتمعات المسلمة يكون بالعودة إلى الماضي- لكن دون تمييز بين العوده القيمية الممكنة والعوده الزمنية المستحيله- والوقوف عند موروثنا الدينى- لكن دون تمييز بين أصول الدين النصية الثابتة ، وفروعه الاجتهادية المتغيرة – فهو موقف يقوم على أصالة لكن بدون معاصره- . هذا الموقف يفهم عملية تأصيل الفلسفة على أنها الاكتفاء بما جاء به موروثنا الدينى عن الوجود والمعرفة والقيم –دون تمييز بين ثوابته ومتغيراته- مع الرفض المطلق للإسهامات المعرفية للمجتمعات الاخرى – ومنها المجتمعات الغربية المعاصرة - فى مجال الفلسفه- لكن دون تمييز بين مجالاتها وفروعها ومفاهيمها ومذاهبها – وقبل ذلك مستوياتها – المختلفة.
الموقف الثاني: التغريب- القبول المطلق لإسهامات المجتمعات الاخرى- معاصره بدون اصاله: يقوم على أن تحقيق التقدم الحضاري للمجتمعات المسلمة لا يمكن أن يتم إلا باجتثاث الجذور وتبني مفاهيم وقيم وقواعد المجتمعات الغربية ،وان تناقضت مع مفاهيم وقيم وقواعد الدين الاسلامى الكليه، التى تشكل الهيكل الحضاري للمجتمعات المسلمة. فهو موقف يستند إلى التغريب الذي مضمونه أن تستبدل المفاهيم والقيم والقواعد الكلية التي جاء بها الإسلام بمفاهيم وقيم وقواعد أخرى ، بعباره اخرى هو موقف يقوم على معاصره بدون اصاله . هذا موقف يقوم فى مجال الفلسفه على القبول المطلق لإسهامات المجتمعات الاخرى – ومنها المجتمعات الغربية المعاصرة - في مجال الفلسفة، دون تمييز بين مجالاتها وفروعها ومفاهيمها ومذاهبها – وقبل ذلك مستوياتها – المختلفة.
الموقف الثالث: التجديد- الموقف التقويمي "النقدى" من إسهامات المجتمعات الاخرى- الجمع بين الأصالة والمعاصرة: يقوم على أن تحقيق التقدم الحضاري للمجتمعات المسلمة يتم باستيعاب ما لا يناقض اصول الدين الاسلامى النصيه الثابته ، التى مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعية الدلاله، والتي تمثل الهيكل الحضاري للمجتمعات المسلمة، سواء كانت من إبداع المسلمين ، أو إسهامات المجتمعات الاخرى – ومنها المجتمعات الغربية المعاصرة - في مجال الفلسفة.
الأوجه المتعددة لعملية تأصيل المجال المعرفي الفلسفى: كما يفهم عملية تأصيل الفلسفة على أنها عملية ذات أوجه متعددة:
1- فمن جهة فإن تأصيل الفلسفة هو نشاط معرفي عقلي يبحث في الوجود والمعرفة والقيم، ويتخذ من النصوص اليقينية القطعية التي وردت فيها ضوابط موضوعية مطلقة له . - 2 كما يتخذ من إسهامات الفلاسفة المسلمين نقطة بداية – وليس نقطة نهاية- لهذا النشاط المعرفي العقلي.باعتبارها تمثل ماضي الامه وخبرتها فى هذا المجال3- هذا الموقف يتجاوز موقفى الرفض المطلق والقبول المطلق لإسهامات المجتمعات الاخرى في مجال الفلسفة، إلى موقف تقويمى "نقدي" يقوم على التمييز بين مجالاتها وفروعها ومفاهيمها ومذاهبها المختلفة، وبالتالى أخذ وقبول ما لا يناقض هذه الاصول رد ورفض ما يناقضها. وهذا الموقف هو الموقف الحقيقي للعديد من العلماء المسلمين من الفلسفة منهم ابن تيميه والغزالي وابن حزم.
التمييز بين المستويات الثلاثة للفلسفة: كما يقوم هذا الموقف على التمييز بين مستويات الفلسفة الثلاثه"فلسفة الفلسفة- علم الفلسفه – فن الفلسفه".
رابعا: تأصيل خصائص التفكير الفلسفي وبيان عدم تعارضها مع الدين الاسلامى: بناءا على ما سبق فان هذا المستوى من مستويات المجال المعرفي الفلسفي"فلسفة الفلسفة " ، يتضمن تاصيل خصائص التفكير الفلسفي ، وبيان عدم تعارضها مع الدين الاسلامى- رغم ان خصائص التفكير الفلسفى ذاتها تنتمى الى مستوى علم الفلسفه، المتضمن للوظيفه المنهجيه للفلسفه –كما سنوضح ادناه -

خصائص المشاكل الفلسفية: كما اشرنا اعلاه فان المشاكل الفلسفيه هى ذات المشاكل التى يطرحها الواقع، لكن منظور إليها من مستوى معرفي معين يتصف بالكليه والتجريد:

(1) الكلية: الفلسفة هي مفهوم كلي للوجود، فهي تبحث في العلاقة بين الوجود الانسانى والالهى والطبيعى، فهى هنا تختلف عن العلوم ذات الطبيعة الجزئيه، (فكل علم يتناول نوع معين من أنواع الوجود).غير أن هذا لا يعني أن الفلسفة بما هي كلية تلغي العلوم بما هو جزئيه، ذلك أن الكل لا يلغي الجزء بل يحده فيكمله ويغنيه، وهو ما يتمثل فى كون كل علم له فلسفته.

(2) التجريد: المجرد هو الفكر لأنه مجرد من الزمان والمكان والمادة ، ونقيضه العيني أي ما بوجد في مكان معين وزمان معين ، وهو الشيء المادي المحسوس. والفلسفة تخصص في الدراسات الفكرية المجردة، لذا فإن موضوعات الفلسفة هي النظريات والمفاهيم والتصورات والأفكار. فهى هنا تختلف عن العلوم ذات الطبيعه العينية (اى ان موضوعاتها موجوده في زمان أو مكان معين). غير أن هذا لا يعني أن الفلسفة منفصلة عن الواقع"العينى" او العلوم"العينيه"، إذ أن المعرفة قائمة على الانتقال من العيني "المشكلة" إلى المجرد " الحل" الى العيني مرة أخرى من أجل تغييره "بالعمل". فالفلسفة بمثابة مقدمات مجردة لا يؤخذ في عزلة عن نتائجها العينية، ووظيفتها إيضاح الأصول الفكرية المجردة لمواقف عينية.

الكليه والتجريد متحققة فى مصطلح "الاصول " الاسلامى: وهذه الخصائص- الكلية والتجريد- متحققة فى مصطلح "الاصول" الاسلامى، وهو ما يتضح عند الرجوع الى معنى المصطلح لغه واصطلاحا. فالأصل لغة هو أساس الشيء أو ما يبتنى الشيء عليه وما يقوم عليه. اما اصطلاحا فيطلق "الأصل" عند الفقهاء والأصوليين على معاني متعددة ، منها القاعدة الكلية التي تشتمل على جزئيات موضوعها(أبو البقاء الكفوي، الكليات، ١ج ، ص ١٨٨، ١٨٩ (. واتساقا مع هذا فإن علوم الاصول الاسلاميه " كعلم أصول الدين، وعلم اصول الفقه..." تمثل نمط خاص"اسلامى" للفلسفه والتفلسف ،اى نشاط عقلاني – فلسفي خاص بالامم والشعوب المسلمة – فلمصطلح الفلسفه الاسلاميه معنى ضيق يشمل المذاهب الفلسفيه للفلاسفه المسلمين – كالكندى والفاربى وابن سينا ... - ومعنى واسع يشمل هذه العلوم الاسلاميه .

خصائص المنهج الفلسفي: والمنهج الفلسفي هو أسلوب حل المشاكل الفلسفية ، وهو يتصف بخصائص معينه هى:الشك المنهجي و العقلانية والمنطقية والنقدية.

(1) الشك المنهجي – النسبي (مفهوم- معيار – التحقق"التبين" الاسلامى) : يقوم المنهج الفلسفي على الشك المنهجي أو النسبي- طبقا للمصطلح الفلسفى الغربى- وهو شك مؤقت ووسيلة وليس غاية في ذاته، إذ غايته الوصول إلى اليقين، أي أن مضمونه عدم التسليم بصحة فكره، إلا بعد التحقق من كونها صحيحه. وهو لا يتعارض مع منهج المعرفه للاسلامى ، لان غايتهما واحده "الوصول الى اليقين" ، لكن الاخير لا يحصر طرق الوصول الي اليقين فيه ،وتاكيدا لذلك يمكن أن نجد نموذجاً لهذا النوع من الشك في القرآن الكريم فى قوله تعالى(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(الانعام).كما استخدمه بعض المفكرين المسلمين كالامام الغزالى فى كتابه " المنقذ من الضلال". والشك المنهجي يختلف عن كل من الشك المذهبي" المطلق" والنزعة القطعية –طبقا للمصطلح الفلسفي الغربى - ، وكلاهما من خصائص التفكير الاسطورى، ويتناقض مع منهج المعرفة الاسلامى، فالشك المذهبي أو المطلق دائم وغاية في ذاته أي أن مضمونه المنهجي قائم على أنه لا تتوافر للإنسان إمكانية التحقق من صحة اى فكره، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا الشك المرفوض بمصطلح الريب (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)( النور: 50).أما النزعة القطعية فتقوم على التسليم بصحة فكره دون التحقق من كونها صادقه أم كاذبه، وقد وجه القرآن الذم لهذه النزعة في عدة مواضع، وعبر عنها بمصطلحات عدة منها الحسبية " اشتقاق من لفظ حسبنا" كما في قوله تعالى: (قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ )( المائده: 104 ). ومضمون هذا الشك المنهجى – النسبى متحقق فى منهج المعرفه الاسلامى فى مفهوم- معيار – التحقق "التبين"، الذى يشمل مجالات واسعه من الحياه ولا يقتصر على المجال المعرفى"النظرى" ، ومضمونه عدم قبول الخبراو نقله الى الغير قبل التيقن من صحته ، يقول الكفوي عن التبين (العلم بعد التأمل)(الكليات :11– 89 )، وقد اشارت اليه العديد من النصوص كقوله تعالى ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا )(الحجرات: 6( ،وقال تعالى على لسان سليمان (عليه السلام) (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾(النمل: 27) ، وقال تعالى ( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون ﴾ ( يونس: 36