بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ثم أما بعد،
فهذا توضيح لبعض المفاهيم التي حصل فيها خلط في هذا العصر، فيما يتعلق بمسألة تبني القول، وحكاية القول، فيما يتعلق بالمسائل العقائدية الأصلية، والله الموفق للصواب.
سبق الكلام على الفرق بين المسائل الفرعية والمسائل العقائدية من حيث القطعية والظنية، وثمرة هذا في حكاية المسائل الفرعية، والمنع من حكاية ما خالف أهل السنة من المسائل العقائدية.
مسألة: الإرشاد إلى أقوال مخالفة لأهل السنة والجماعة
https://aslein.net/showthread.php?t=20071
مواقف أهل السنة من المبتدعة:
وبعدما تبين بطلان وفساد جواز حكاية قول مخالف لأهل السنة، لبطلانها في نفس الأمر، ننظر في مواقف أهل السنة من المبتدعة، ونراها تنبني على بعض الأصول:
منها: ما سبق من أن المسائل العقائدية الحق فيها واحد، والمخالف مبطل قطعا، فمجرد مخالفة أهل السنة يعني البدعة.
ومنها: مدى قبح البدعة، بمعنى شدة البعد والمخالفة للصحيح من فهم الدين، ومصادمتها للنصوص والإجماعات، فليست كل البدع على نفس المستوى في الانحراف والخطورة.
ومنها: مدى نشاط المبتدع في نشر بدعته؛ ذلك أن من خطورة البدع أن صاحبها، يتدين إلى الله بها، فهو بسبب ما قام فيه من شبهة، يعتقدها صوابا قطعا، وموافقة للأدلة قطعا، ولذلك يصعب جدا على المبتدع أن يرجع عن بدعته.
ثم المبتدع هذا، طالما يرى نفسه على الحق، ويرى الحق محاربا من قبل من يرد عليه، فهو يكون حريصا إذا تمكن وقدر على نشر بدعته والدفاع عنها.
فالمبتدع الداعي إلى بدعته، شره ليس منحصرا في نفسه، من حيث اعتقاد الباطل، بل شره يتعدى لغيره، ولذلك كانت مواقف أهل السنة منهم أشد من مجرد من اعتقد البدعة واعتزل عن الناس.
نشر البدع:
النشر هو: شرح الأقوال هذه، وذكر أدلتها، بحيث تستحسنها النفوس وتقبل عليها وتتبناها، فهو دعوى إلى تبني تلك االأقوال الباطلة.
ثم قد نرى المبتدع يكتفي بتحسين بدعته، وربما نراه يرد على الأقوال الأخرى، ولكن الرد على المخالفين له أمر زائد على النشر الذي يحصل بالتحسين والدعوة إلى القول.
فيكفي في النشر: الشرح والبيان، وذكر الأدلة، والتقوية، دون التعرض بعد للرد على كل هذا، حتى نقول: فلان ينشر البدع.
فالحاصل أنه:
لو كان عندنا مبتدع يعتقد في نفسه بقول بدعي، ولا ينشره، لكانت بدعته هذه قاصرة عليه، والفساد لا يتعدى إلى غيره.
ولو كان عندنا مبتدع آخر: يسعى إلى نشر البدعة وتحسينها بين الناس، فبدعته وشره ليس قاصرا عليه والفساد يتعدى إلى غيره، وموقف العلماء منه أشد.
فلو استوت درجة البدعة في القبح، فالشدة الزائدة هي بسبب نشر البدعة، لا لمجرد قيامها في النفس؛ إذ الفساد الأكبر يحصل بالنشر، لا بالاعتقاد في النفس.
من ينشر ويدعي أنه لا يعقد ما ينشره:
لو قال قائل: إنه لا يعتقد قولا بدعيا معينا، ولكننا نراه ينشره، بأن يشرحه ويحسنه ويذكر أدلته، ولا يتعرض لأي نقض أو نقد له، ولا لذكر قول آخر غيره، ولا أدلة ذلك القول الآخر.
[الاستدلال على البواطن بالظواهر]
بما أننا لا اطلاع لنا على البواطن، فالظاهر ممن يفعل هذا الفعل: أنه يعتقد القول الأول هذا، وإلا ما نشره وقواه، وما ذكره غيره، هذه أمرات تكشف لنا عن البواطن الخفية.
ثم إذا تكرر هذا الصنيع في أقوال بعينها: قويت القرائن أكثر وأكثر أنه يتبنى القول الفلاني فإنا لا طريق لنا إلى البواطن،
والتعامل مع الظواهر من الأقوال والأفعال هو الطريق الذي نقدر على الحكم على الناس بالابتداع، من خلال أقوالهم وأفعالهم الكاشفة عن معتقداتهم.
ولذلك نرى الشرع ربط الحكم بصحة الإسلام، بأن يتلفظ الشخص بأمر كاشف عن باطنه لنا، وهو الشهادتين.
وجعل أفعالا معينة دالة على فساد الباطن، حتى نحكم على مرتكبها بالردة، لمنافاة الفعل للتعظيم والإذعان لله تعالى.
[تعارض القرائن مع دعوى أخرى]
ثم إذا صرح من يدعو وينشر قولا أنه لا يعتقده:
حينئذ يقع لنا في الظاهر تعارض،
لأن النشر والتحسين والتقوية والدعوة إلى القول: هي أمور دالة على التنبي.
ثم عارضها دعواه أنه لا يتبنى هذه الأقوال.
فإما أن ينفك النشر والتقوية والتحسين عن التبني، وإما أن دعوى عدم التبني هذه كاذبة.
والإشكال أنه فرق بين مجرد حكاية قول، وبين تقويته ونشره وتحسينه وتحبيبه للناس، فإن دلالة هذه الأمور على التبني قوية جدا.
وعلى كل : فيصير عندنا تناقض في الظاهر حيث يجمع شخص فأفعاله بين حال المتبني، مع تكذيبه هذا الحال بلسانه، وأنه يفعله لمقاصد أخرى يدعيها
والإشكال هذا يظهر أكثر إذا استحضرنا:
أن الحق في المسائل العقائدة عند أهل السنة واحد ، وأنها مسائل قطعية، وأن الصواب مع أهل السنة حصرا، وأن مخالفهم مخطئ قطعا.
فإن سُلِّم دعواه بلسانه، فهذا يكون من أعجب الأمور، إذ من يدعي أنه يعتقد اعتقاد أهل السنة، ثم يسعى جاهدا في نشر قول مخالف لهم، وتقويته وتحسينه وتحبيبه للناس، حال اعتقاده أن هذا القول باطل قطعا لا تصح نسبته إلى الفهم الصحيح للدين، لهو من العجائب فعلا!
الظاهر للكل
والذي سيظهر لكل أحد، وهو ما كلفنا الله به، الذي هو الحكم على الظواهر: هو أنه يدعو إلى القول البدعي وينشره ويحسنه. فإذن هو يتبناه.
إلا عند من سمع منه ذلك القول أنه لا يتبناه.
ثم بناء على ما يظهر للناس أجمع، لا يوجد أن فرق بينه وبين أي مبتدع يدعو إلى بدعته
كلاهما الفساد حاصل بسبب نشرهما للبدع، والضلال واقع بتحسينهم للباطل، والزيغ متحقق بعدم شرحهم ونصرتهم وتبنيهم لأقوال أهل السنة.
وكون أحدهما يدعي أنه بينه وبين نفسه لا يرى هذا القول، مما يزيد المسألة عجبا لما فيها من هذا التناقض، الواقع بين اعتقاد أمر، ثم السعي في نشر غيره من الباطل الفاسد قطعا في اعتقادي!، ذلك الفاسد الذي لا تصح نسبته للفهم الصحيح للدين أصلا، وسبق التفصيل في هذه القضية.
أصول مهم الاتفاق عليها!
والكثير مما ذكرته مبني على أصول وتصورات مقررة عند أهل السنة، وربما يكون هذا الشخص في الحقيقة مخالفا لأهل السنة فيها، فربما لا يرى الكثير من مسائل أهل السنة قطعية أصلا، أو لا يرى أهل السنة المعبر عن الفهم الصحيح للدين أصلا حصرا، وربما لا يرى خطأ المخالف في الأصول والعقليات، وربما يراه معذورا باجتهاده، إلى غير ذلك من المسائل التي يكون بذلك مخالفا فيها لأهل السنة.
وعلى كل حال:
الضلال المتعدي والفساد المنتشر والزيغ المفسد للناس، هو نشر الأقوال الباطلة، وتحقق هذا القدر كاف في استحقاق التشنيع الذي شنعه أهل السنة على المبتدعة.
أصلح الله تعالى لنا الأحوال وأعاننا على بيان الحق وكشف الباطل.