شرح العلامة الدمنهوري على متن السلم
بسم الله الرحمن الرحيم
إيضاح المبهم من معاني السلّم
للعلامة أبي المعارف شهاب الدّين أحمد بن عبد المنعم الدمنهوري الأزهري
المتوفى سنة 1198 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ملهم الصواب، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الناطق بالحكمة وفصل الخطاب، وعلى آله وأصحابه الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان على الدّوام.
وبعد، فيقول أحمد الدمنهوريّ بلّغه الله الآمال، ورزقه التوفيق في الأقوال والأفعال: قد سألني بعض الطلبة المبتدئين، أن أشرح (سلّم المنطق) شرحاً يكون في غاية اللين، وأن لا أزيد على حلّ ألفاظه، ليظفر بفهم معناه من هو من حفاظه، فأجبته لذلك مستعيناً بالقادر المالك، مسمياً له بإيضاح المبهم من معاني السلّم، طالباً من السميع البصير، أن ينفع به كما نفع بأصله، إنه على ذلك قدير. قال رحمه الله:
[بسم الله الرحمن الرحيم]
[مقدمة]
[الحمد لله الذي قد أخرجا * نتائج الفكر لأرباب الحجا
وحط عنهم من سماء العقل* كلّ حجاب من سحاب الجهل
حتّى بدت لهم شموس المعرفة* رأوا مخدّراتها منكشفة]
أقول: الحمد لغة: الثناء بالكلام على المحمود بجميل صفاته، وعرفاً فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب إنعامه على الحامد أو غيره. والشكر لغة: هو الحمد اصطلاحاً، مع إبدال الحامد بالشاكر. وعرفاً: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله. وتحقيق الكلام في البسملة والحمدلة والشكر والمدح لغة وعرفاً والنسبة بين الثلاثة في رسالتنا كشف اللثام عن مخدّرات الأفهام.
والله علم على الذات الواجب الوجود. وأخرج بمعنى أظهر. والنتائج جمع نتيجة وهي المقدمة اللازمة للمقدمتين، كالعالم حادث، اللازم لقولنا: العالم متغير، وكلّ متغيّر حادث.
والفكر: حركة النفس في المعقولات. وحركتها في المحسوسات تخييل.
والأرباب جمع ربّ، والمراد هنا الصاحب. والحجا العقل، وهو مقصور. ومعنى البيت:
الحمد لله الذي أظهر لأرباب العقول نتائج أفكارهم. وفي ذكر النتائج براعة استهلال. وفي البيت سؤالان:
الأول: لم حمد بالجملة الاسمية، ولم يحمد بالفعليّة؟ الثاني: لم قدّم الحمد على (لله) مع أن تقديم الاسم الكريم أهمّ؟
والجواب عن الأوّل: أنه حمد المولى لذاته، وذاته سبحانه ثابتة مستمرة، فناسب الحمد بالجملة الدالة على الثبات والدوام، وهي الجملة الاسمية.
وعن الثاني: بأن المقام مقام الحمد، وإن كان ذكر الله أهم في نفسه، فقدّمت الأهميّة العارضة على الأهميّة الذاتيّة مراعاة للبلاغة التي هي مطابقة المقال لمقتضى الحال.
قوله (وحط) بمعنى أزال، و(مِنْ) في قوله (من سماء العقل) بمعنى عن، وهي ومجرورها بدل مما قبله، أي: أزال عن عقلهم الذي هو كالسماء، بجامع كون كلّ منهما محلاً لطلوع الكواكب، فكواكب العقل معنوية، وهي المعاني والأسرار، وكواكب السماء حسيّة. والأصل: من عقلٍ كالسماء، فحذفت أداة التشبيه وأضيف المشبه به إلى المشبه بعد تقديمه عليه، وهذا العمل جار في قوله (من سحاب الجهل) إذ أصله: من جهل كالسحاب، ففعل به ما تقدّم. والجامع بين الجهل الذي هو عدم العلم بالشيء، والسحاب كون كلّ منهما حائلاً.
ومعنى البيت: وحط عن عقولهم التي هي كالسماء كلّ حجاب أي حائل من الجهل الذي هو كالسحاب. وفي البيت سؤالان:
الأول: عطفُ (حط) على (أخرج) من أيّ قبيل؟ الثاني: أن الجهل أمر عدميّ، والسحاب أمر وجوديّ، ولا يصحّ تشبيه العدميّ بالوجوديّ؟
والجواب عن الأوّل: أنه من قبيل عطف السبب على المسبَّب، لأن إزالة الحجاب سبب في إظهار النتائج.
وعن الثاني: بأن الجهل كما يقال فيه: عدم العلم بالشيء، يقال فيه: إدراك الشي على خلاف ما هو به، فلم يكن عدمياً، فصحّ التشبيه.
قوله (حتى بدت) أي ظهرت غاية للحط. قوله (شموس المعرفة) أي: معرفة كالشموس، ففعل به ما تقدّم. و(المخدرات) المستترات، لأن الخِدر معناه الستر. و(منكشفة) ظاهرة.
والمقصود من البيت: انتهاء زوال الحجاب عن عقولهم لظهور شمس المعارف التي كانت مستترة لدقتها. وفي البيت سؤالان:
الأوّل: أن البيت الأول يغني عنه البيت الثاني، فكان الأولى بعد أن وقع منه ذكره أن يذكر الأوّل بجنبه؟ أو يذكره بجنب الثالث لكون كلّ منهما مسبباً عن إزالة الحجب؟
والجواب عن الأوّل: أن النتائج في البيت الأوّل أعمّ من أن تكون بعيدة مستورة بسبب دقتها أولا. وما في البيت الثاني خاص بالمستورة البعيدة فلم يغن البيت الأوّل عنه.
وعن الثاني: بأنه قدّم البيت الأوّل حرصاً على براعة الاستهلال، فلم يتأت جعله بجنب البيت الثالث، واضطر إلى تأخير الثالث لكونه غاية لما قبله، فلم يتأت جعله بجنب الأوّل.
ثم قال:
[نحمده جلّ على الإنعام * نعمة الإيمان والإسلام
من خصنا بخير من قد أرسلا * وخير من حاز المقامات العلا
محمد سيد كلّ مقتفى * العربي الهاشميّ المصطفى
صلى عليه الله ما دام الحجا * يخوض من بحر المعاني لججا
وآله وصحبه ذوي الهدى * من شبهوا بأنجم في الاهتدا]
أقول: حمد المولى سبحانه وتعالى حمداً مطلقاً أولاً، وحمده حمداً مقيّداً ثانياً، ليحصل له الثوابان: المندوبُ على الحمد الأول، والواجب على الحمد الثاني، وليكون شاكراً ربه على إلهامه للحمد الأوّل. لأنه إلهامه إياه نعمة تحتاج إلى الشكر عليها.
وقوله (جلّ) بمعنى عظم. والإنعام: هو إعطاء النعمة، والإيمان: تصديق القلب بما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلّم من الأحكام. والإسلام: هو الأفعال الظاهرة كالصلاة والصوم، لكنهما متلازمان شرعاً.
ومعنى البيت: نثني عليه سبحانه وتعالى لأجل إنعامه علينا بهاتين النعمتين اللتين بهما إنقاذ المهجة من النار. وفي البيت سؤالان:
الأوّل: لم حمد أولاً بالجملة الاسميّة وهنا بالجملة الفعليّة؟ الثاني: لم حمد على الإنعام الذي هو الوصف ولم يحمد على النعمة؟
والجواب عن الأوّل: أن الحمد ههنا متعلَّقُه النّعم، وهي متجدّدة، فناسب أن يحمده بما يدلّ على التجدد، وهي الجملة الفعليّة.
وعن الثاني: بأن الحمد على النعمة يوهم اختصاص الحمد بها دون غيرها، بخلاف الحمد على الوصف.
وقوله (مَن خصّنا) من: اسم موصول بدل من الضمير المعمول لنحمده، وخصّنا أي: معاشر المسلمين. ومَنْ بمعنى رسول، وحاز بمعنى جمع، والمقامات المراتب، والعلى الرفيعة، ومحمد صلى الله عليه وسلّم بدل من خير، والسيّد متولي أمر السواد، أي الجيوش الكثيرة، وهو صلى الله عليه وسلّم متولي أمر العالم بأسره. والمقتفى المتّبع بفتح الباء، وإذا كان سيد المتبوعين، فهو سيد التابعين من باب أولى. والعربيّ نسبة للعرب، والهاشميّ نسبة لبني هاشم، والمصطفى المختار، والصلاة في اللغة العطف، فإن أضيف إلى الله سمّي رحمة، أو إلى الملائكة سمّي استغفاراً، أو إلى غيرهما سمّي دعاء. والحجا تقدّم أنه العقل. واللجج جمع لجّة، وهي ما فيه صعوبة من الماء الغزير، والمراد بها المعاني الصعبة.
وآل النبيّ في مقام الدعاء كلّ مؤمن تقيّ، وصحبه: اسم جمع بمعنى صاحب، وهو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلّم مؤمناً به. وذوي جمع ذو بمعنى صاحب، أي أصحاب الهدى.
وقوله (من شبهوا... إلخ) أي في قوله صلى الله عليه وسلّم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، فحذف الفاعل هنا للتعظيم.
وفي هذه الأبيات الأربعة أربعة أسئلة:
الأوّل ما مدلول الضمير في (خصنا)؟ الثاني: أن قوله (بخير من أرسلا) يفيد معنى قوله (سيد كل مقتفى)، فما وجه عدم الاقتصار عليه؟ الثالث: أنه قيّد الصلاة بدوام خوض العقل لججاً من بحر المعاني مع أن الأولى التعميم. الرابع: لم قدّم الآل على الصّحب، مع أن فيهم من هو أشرف الأنام بعد المصطفى صلى الله عليه وسلّم، وهو أبو بكر؟
فالجواب عن الأوّل: أن مدلول الضمير يصحّ أن يكون أمّة الإجابة، كما قدّرتُه، ويصحّ أن يكون أمّة الدّعوة، فيدخل الكفار، بدليل (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، إذ ما من عذاب إلا وعند الله أشدّ منه، فعدم تعذيب الكفار بالأشد إكراماً له صلى الله عليه وسلّم.
وعن الثاني: بأن الوصف بالسيادة إشعاراً بعموم رسالته صلى الله عليه وسلّم، وأن الأنبياء والمرسلين من أمته صلى الله عليه وسلّم، فهو متولّي أمور الجميع.
وعن الثالث: بأن القيد في الصلاة ليس مراداً، بل المراد التعميم في جميع الأوقات.
وعن الرابع: بأن الصلاة ثبتت على الآل نصّاً في قوله صلى الله عليه وسلّم: (قولوا اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد) الحديث. وعلى الصحب بالقياس على الآل، فاقتضى ذلك التقديم.
ثم قال:
[وبعد فالمنطق للجنان * نسبته كالنحو للسان
فيعصم الأفكار عن غيّ الخطا * وعن دقيق الفهم يكشف الغطا
فهاك من أصوله قواعداً * تجمع من فنونه فوائدا]
أقول: لفظة (بعد) تكون ظرف زمان، كما في قولك: (جاء زيد بعد عمرو)، وظرف مكان كما تقول: (دار زيد بعد دار عمرو)، ويصح استعمالها هما في المعنيين باعتبار أن زمن النطق بما بعدها بعد زمن النطق بما قبلها، أو اعتبار أن مكانه في الرّقْمِ بعده، وهي هنا دالّة على الانتقال من كلام إلى آخر، فلا يؤتى بها في أوّل الكلام.
والمنطق: مصدر ميمي يطلق بالاشتراك على النطق بمعنى اللفظ، وعلى الإدراك، والمراد به هنا الفنّ المؤلّف فيه هذا الكتاب. سمّي بهذا الاسم لأنه يقوي الإدراك، ويعصمه عن الخطأ. فهو قانون تعصم مراعاته الذهن عن الخطأ في الفكر، كما أن من راعى قواعد النحو لا يتطرّق إليه الخطأ في المقال. وإلى هذا المعنى أشار بقوله: (فالمنطق للجنان نسبته كالنحو للسان).
فيعصم الأفكار أي يحفظها عن غيّ الخطأ. والجَنان يطلق على القلب، والمراد به هنا القوى الفكريّة، وإضافة غيّ إلى الخطأ من إضافة العام إلى الخاصّ؛ إذ الغيّ الضلال، والخطأ نوع منه.
قوله (وعن دقيق الفهم) من إضافة الصّفة إلى الموصوف، فالمصدر بمعنى اسم مفعول، أي: المفهوم الدقيق، والغطا بكسر الغين، والمعنى أنّ من تمكّن من هذا الفنّ صار النظريّ من المعاني المستورة ضرورياً مكشوفاً واضحاً له، وهذا أمر مشاهد لا يحتاج لبيان.
وهاك: اسم فهل بمعنى خذ، وقواعداً معموله، ومن أصوله حال من قواعد، ومن تبعيضية. أي خذ قواعد هي بعض أصوله. أي قواعده. إذ القاعدة والأصل بمعنى واحد. وهو أمر كليّ ينطبق على جميع جزئياته. كقول النحاة: الفاعل مرفوع، وقول المناطقة الموجبة الكليّة عكسها موجبة جزئية. والفنون: الفروع. والفوائد جمع فائدة وهي في الأصل: ما استفيد من علم أو مال. والمعنى أن هذه القواعد تجمع فروعاً، والفروع تشتمل على فوائد.
ثمّ قال:
[سمّيته بالسلّم المنورق * يرقى به سماء علم المنطق
والله أرجو أن يكون خالصا * لوجهه الكريم ليس قالصا
وأن يكون نافعاً للمبتدي * به إلى المطولات يهتدي]
أقول: الضمير المتصل بسميته يعود على المؤلف المفهوم من السياق، وسمّى يتعدى لمفعولين للأول بنفسه، وللثاني بنفسه أو بالباء، كما هنا.
والسلّم: ما له درج يتوصل به من سُفل إلى علوّ. واستعماله في المعاني مجاز، والمنورق بتقديم النون المزيّن، يرقى يصعد. وعلم المنطق: المراد به المسائل. وشبّه تلك المسائل بالسماء بجامع البعد. والمعنى أن هذه المسائل التي نظمتها وسمّيتها بالسلّم سهلة يتوصل بها إلى المسائل البعيدة الصعبة.
ثمّ طلب من المولى سبحانه أن يكون تأليف هذا الكتاب خالصاً من الرياء، فقال: (والله أرجو) أي أؤمّل. والوجه الذات. والقالص الناقص.
ثمّ طلب منه سبحانه أن ينفع به المبتدي، وأن يتوصّل به إلى الكتب المطوّلات. فقال (وأن يكون) إلخ. والمبتدي من ليس له قدرة على تصوير مسائل الفنّ الذي يقرأ فيه. فإن قدر على ذلك فمتوسّط، وإن قدر على إقامة دليلها فمنته. وقد أجاب المولى سبحانه المؤلّف بعين ما طلب، فكلّ من قرأ كتابه بنيّة واعتناء يفتح الله عليه في هذا العلم، وقد شاهدنا ذلك، وقد أخبرنا شيخنا عن أشياخه أن المؤلف كان من أكابر الصوفيّة، وكان مجاب الدّعوة رحمه الله تعالى، ونفعنا ببركته، وأعاد علينا من صالح دعواته. ثم قال:
[فصل] في جواز الاشتغال به
[والخلف في جواز الاشتغال * به على ثلاثة أقوال
فابن الصلاح والنواوي حرّما * وقال قوم ينبغي أن يعلما
والقولة المشهورة الصحيحة * جوازه لسالم القريحة
ممارس السنّة والكتاب * ليهتدي به إلى الصواب]
أقول: ذكر في هذا الفصل حكم الاشتغال بعلم المنطق، لكونه من المبادي العشرة التي ينبغي لكل شارع في علم أن يقف عليها ليكون بصيرة فيما يشرع فيه، وقد استوفى مبادئ هذا الفنّ شيخ مشايخ شيخنا سيدي سعيد قدّورة في شرحه لهذا الكتاب، فمنها الاسم، وقد تقدّم أن هذا العلم يسمّى المنطق، ويسمّى معيار العلوم، وعلم الميزان. ومنها التعريف، وتقدّم تعريف هذا العلم في الشرح. ومنها النسبة، وتقدّت في قول المتن (نسبته) إلخ. ومنها الحكم، وذكرها المصنّف في هذا الفصل. وبقيّة المبادئ في الشرح المذكور.
واختلفوا في الاشتغال به على ثلاثة أقوال:
الأوّل: المنع منه، وبذلك قال النووي وابن الصلاح. والثاني: الجواز، وبذلك قال جماعة، منهم الغزالي، قائلاً: من لم يعرفه لا ثقة بعله، أي: لا يأمن الذهول عنه عند الاحتياج إليه، لعدم القواعد التي تضبطه.
الثالث: وهو المشهور الصحيح: التفصيل، فإن كان المشتغل ذكيّ القريحة قويّ الفطنة ممارساً للكتاب والسنّة، جاز الاشتغال به، وإلاّ فلا.
واعلم أنّ هذا الخلاف إنما هو بالنسبة للمنطق المشوب بكلام الفلاسفة كالذي في طوالع البيضاويّ. وأما الخاص منها كمختصر السنوسيّ، والشمسيّة، وهذا التأليف، فلا خلاف في جواز الاشتغال به، بل لا يبعد أن يكون الاشتغال به فرض كفاية، لتوقف معرفة دفع الشّبه عليه، ومن المعلوم أن القيام به فرض كفاية. والله أعلم.
ثمّ قال:
[أنواع العلم الحادث]
[إدراك مفرد تصوراً علم* ودرك نسبة بتصديق وسم
قدم الأول عند الوضع* لأنه مقدم بالطبع
والنظري ما احتاج للتأمـــل* وعكسه هو الضروري الجلي
وما إلى تصور به وصل* يدعى بقول شارح فلتبتهل
وما لتصديق به توصّلا* بحجة يعرف عند العقلا]
أقول: لفظ أنواع مخرج للعلم القديم، فإنه لا تنوع فيه، فإتيانه بالحادث بعد ذلك تأكيد وإيضاح للمبتدي. والعلم معرفة المعلوم. ثم إنه ينقسم إلى تصور وإلى تصديق، وكل منهما إلى ضروري وإلى نظري، فالأقسام أربعة. فإن كان إدراك معنى مفرد فهو تصور كإدراك معنى زيد. وإن كان إدراك وقوع نسبة فهو تصديق كإدراك وقوع القيام في قولنا زيد قائم،
وهذا معنى قوله (إدراك مفرد) البيت. فزيد قائم اشتمل على تصورات أربعة: تصور الموضوع وهو زيد، وتصور المحمول وهو قائم، وتصور النسبة بينهما وهو تعلّق المحمول بالموضوع، وتصوّر وقوعها. فالتصور الرابع يسمى تصديقاً، والثلاثة قبله شروط له، وهذا مذهب الحكماء.
ومذهب الإمام أن التصديق هو التصورات الأربعة. فيكون التصديق بسيطاً على مذهب الحكماء، ومركباً على مذهب الإمام. والمصنف ماش على مذهب الحكماء بتقدير مضاف في كلامه بين درك ونسبة وهو وقوع.
ثم إنك إذا أردت أن تكتب التصور والتصديق وتتعلمهما أو تعلمهما فالمراد بالوضع ما يشمل ذلك، فقدم التصور على التصديق لأنه مقدّم عليه طبعاً فيقدم وضعاً. وهذا معنى قوله (وقدم الأول) البيت.
ثم بين أن النظري من كل من التصور والتصديق ما احتاج للتأمل، والضروري عكسه، وهو ما لا يحتاج إلى ذلك. فالأقسام أربعة كما تقدّم.
مثال التصور الضروري إدراك معنى لفظ الواحد نصف الإثنين، ومثال التصور النظري إدراك معنى الواحد نصف سدس الإثني عشر. ومثال التصديق الضروري إدراك وقوع النسبة في قولنا الواحد الإثنين، ومثال التصديق النظريّ إدراك وقوع النسبة في قولنا نصف سدس الإثني عشر. وبما تقرر علم انحصار العلوم في التصورات والتصديقات.
ولكل منهما مباد ومقاصد. فمبادي التصورات الكليات الخمس، ومقاصدها القول الشارح. ومبادي التصديقات القضايا وأحكامها، مقاصدها القياس بأقسامه. فانحصر فن المنطق في هذه الأبواب الأربعة، وأما بحث الدلالات ومباحث الألفاظ إنما ذكر في كتب المنطق لتوقف بحث الكليات الخمس عليه، ومن نظر إلى أقسام القياس الخمسة عد الأبواب ثمانية، ومن عد معها مبحث الألفاظ مستقلاً كانت الأبواب عنده تسعة. ثم إن المناطقة اصطلحوا على تسمية اللفظ المفاد به معنى مفرد بالقول الشارح كالحيوان الناطق في تعريف الإنسان المتوصل به إلى معنى مفرد، وهو معنى الإنسان؛ وهذا معنى قوله (وما به إلى تصور) البيت. واصطلحوا على تسمية اللفظ المفيد للتصديق حجة أي قياساً كالعالم متغير وكل متغير حادث المتوصل به إلى النتيجة وهي العالم حادث. وهذا معنى قوله (وما لتصديق). البيت.
[أنواع الدلالة الوضعية]
[دلالة اللفظ على ما وافقه* يدعونها دلالـة المطابقة
وجزئه تضمناً وما لزم* فهو التزام إن بعقل التزم]
أقول: مراده بالدلالة الوضعية اللفظية بدليل قوله في البيت دلالة اللفظ، ومراده في البيت دلالة اللفظ الوضعية بدليل قوله في الترجمة الوضعية، فقد حذف من كل من الترجمة والبيت ما أثبت نظيره في الآخر، وهو نوع من الجناس يسمى احتباكاً.
والدلالة فهم أمر من أمر كفهمنا الجرم المعهود من لفظ السماء، فلفظ السماء يسمى دالاً والجرم المعهود مدلولاً.
والدلالة بحسب الدال ستة أقسام، لأن الدال إما أن يكون لفظاً كالمثال المتقدم أو غير لفظ كالدخان الدال على النار، وكل منهما إما أن يكون دالاً بالوضع أو بالطبع أو بالعقل. مثال دلالة غير اللفظ الوضعية دلالة الإشارة على معنى نعم أو لا، ودلالة النقوش على الألفاظ؛ ومثال الطبيعية دلالة الحمرة على الخجل، والصفرة على الوجل، ومثال العقلية؛ ومثال العقلية دلالة العالم على موجده وهو الباري جل وعلا، والدخان على النار،
ومثال دلالة اللفظ الوضعية الأسد على الحيوان المفترس، والإنسان على الحيوان الناطق، ومثال الطبيعية دلالة الأنين على المرض، وأُح على ألم بالصدر. ومثال العقلية دلالة كلام المتكلم من وراء جدار على حياته، والصراخ على مصيبة نزلت بالصارخ.
والمختار من هذه الأقسام الدلالة اللفظية الوضعية فقولنا اللفظية مخرج لغير اللفظية بأقسامها، وقولنا الوضعية مخرج للفظية الطبيعية والعقلية، ثم هذه الدلالة ثلاثة أقسام مطابقية وتضمنية والتزامية. فالأولى: دلالة اللفظ على تمام ما وضع له كدلالة الإنسان على مجموع الحيوان الناطق.
والثانية: دلالته على جزء المعنى في ضمنه كدلالته على الحيوان أو الناطق في ضمن الحيوان الناطق.
والثالثة دلالته على أمر خارج عن المعنى لازم له كدلالته على قبول العلم وصنعة الكتابة على ما فيه. وهذا معنى قوله (دلالة اللفظ) البيتين.
وسميت الأولى دلالة المطابقة لمطابقة الفهم للوضع اللغوي، لأن الواضع وضع اللفظ ليدل على المعنى بتمامه. وقد فهمناه منه بتمامه. والثانية دلالة تضمّن لأن الجزء في ضمن الكل. والثالثة دلالة التزام لأن المفهوم خارج عن المعنى لازم له. وقوله إن بعقل التزم أشار به إلى أن اللازم لا بدّ أن يكون لازماً في الذهن سواء كان ذلك في الخارج كلزوم الزوجية للأربعة أم لا، كلزوم البصر للعمى. وأما إذا كان لازماً في الخارج فقط كسواد الغراب فلا يسمى فهمه من اللفظ دلالة التزام عند المناطقة، وإن سمي بذلك عند الأصوليين. فالباء في قوله (بعقل التزم) بمعنى في، والمراد بالعقل الذهن أي القوة المدركة.
ثم إن كلاً من دلالة التضمن والالتزام يستلزم دلالة المطابقة وهي لا تستلزمهما كما إذا كان المعنى بسيطاً ولا لازم له. ودلالة التضمن قد تجتمع مع دلالة الالتزام فيما إذا كان المعنى مركباً وله لازم ذهني، وتنفرد دلالة التضمن فيما إذا كان المعنى مركباً ولا لازم له ذهنياً، وتنفرد دلالة الالتزام فيما إذا كان المعنى بسيطاً كالنقطة، وله لازم ذهني، والله أعلم.
يتبع إن شاء الله.... فصل في مباحث الألفاظ
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين