بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ السفاريني المحترم،
سؤالك: (مسألة خلق القرآن. فماذا تعني هذه المسألة؟)
الجواب: تدور المسألة على أن ما يسمى قرآناً هل هو مخلوق من مخلوقات الله تعالى بمعنى أن الله تعالى أوجده من عدم بعد أن لم يكن موجوداً أصلاً -كما خلق العالم بأسره- أو أنه ليس بمخلوق أي أنه قديم موجود منذ الأزل بلا بداية.
وقد اتفق المسلمون على أن الله تعالى متكلم. ولكن هذا الاتفاق لا يعدو كونه اتفاقاً لفظياً، لأنهم افترقوا في معنى ذلك أي في معنى كونه متكلماً:
فقالت المعتزلة: كلام الله فعل من أفعاله، ولم يخالفوا في أنه متكلم، ولكنهم قالوا معنى كونه متكلماً عندهم أنه يخلق كلاماً أي حروفاً وأصواتاً تدلّ على ما يريده. وأهل السنة لا ينازعونهم في إمكان أن يخلق الله تعالى أصوات وحروفاً تدل على أمر يريده، ولكنهم ينازعونهم في أن الكلام صفة قديمة قائمة بالله تعالى كالعلم والقدرة والإرادة، وليست فعلاً بمعنى مفعولاً ومخلوقة من مخلوقاته.
وقال المشبهة: كلام الله صفته ليس بمخلوق، مع كونه حرفاً وصوتاً، والحرف والصوت حادثين وليسا بمخلوقين. وهذا الصنف مكابر غاية المكابرة، وليس لتفريقه بين الحادث والمخلوق أي معنى، وأتحدى أن يستطيع واحد منهم أن يفرّق بينهما بدليل معتبر. ولكنهم يتمسكون بهذا الفرق ليقولوا وصف الله الذكر في القرآن بأنه محدث، والقرآن ذكر فالقرآن محدث، والقرآن صفة لله تعالى، وصفات الله تعالى تقوم بذاته، فالحوادث تقوم بذات الله. ولا يريدون من كل هذا الخبط إلا أن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت. وأهل السنة ينازعونهم في ذلك، فيقول أهل السنة: نعم كلام الله تعالى صفته القائمة به، ولكنه قديم ليس بمخلوق، والحرف والصوت حادثين، ولا فرق بين الحادث والمخلوق، فكلام الله الذي هو صفته القائمة به ليس بمخلوق ولا محدث، ولو قام الحادث بذات القديم لكان القديم حادثاً. وهو محال.
والذي عليه ابن تيمية والسلفية هو هذا القول الذي تقوله المشبهة لأنهم بذلك يشبهون كلام الله تعالى بكلام خلقه، ويشبهون ذاته بذات خلقه حين يجيزون قيام الحوادث بذاته سبحانه وتعالى عما يقولون، واعلم أنهم كما يقولون إن الكلام حادث قائم بذات الله، فهم يقولون أيضاً إن الإرادة أيضاً تحدث في ذات الله، وأن الله تعالى ينفعل بمخلوقاته، فتتغير أحواله فيغضب ويكره ويرضى إلى غير ذلك، وهذا أمر في غاية الشناعة، إذ هذه الألفاظ في حقه تعالى لا تحمل على ظاهر معناها المعروف في المخلوقات، وليست هذه صفات قائمة بذاته، بل هي صفات لأفعاله. وحين نقول لهم إن هذا لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه يتهموننا بنفي الصفات والتعطيل، ويقولون إننا جهمية ومؤولة... ويخترعون لنا أوصافاً وشتائم لا تصدق علينا مطلقاً.
والتحقيق الذي عليه أهل السنة الأشعريّة والماتريدية هو أن كلمة القرآن تطلق بالاشتراك على هذه الحروف والأصوات التي بين دفتي المصحف الذي بين أيدينا، وكل ذلك مخلوق. وتطلق على مدلول هذه الألفاظ والأصوات وهي الصفة القديمة القائمة بذات الله تعالى وهي صفة الكلام وهذه الصفة ليست بمخلوقة ولا حادثة، ويستحيل أن تكون كذلك، وهذه الأصوات والحروف مخلوقة من مخلوقات الله تعالى وحادثة بعد أن كانت معدومة، ولكنها دالة على كلام الله تعالى القديم. ولا إشكال في أن يدل الحادث المخلوق على القديم مطلقاً، لأن جميع العالم المخلوق دال على الله تعالى القديم، وهذه الصحف والحروف والأصوات كلها من جملة العالم المخلوق لله تعالى.
وهذا هو باختصار شديد معنى هذه المسألة وأهم ما وقع الخلاف فيه.
سؤالك: (وماذا يترتب على القول بها؟)
الجواب: أهل السنة يقولون كلام الله تعالى الذي هو صفته القائمة به قديم قدم ذاته، أزلي أبديّ كذاته وباقي صفاته، وليس بحادث ولا مخلوق.
ومن قال بأنه حادث مخلوق وقال مع ذلك إنه صفته القائمة بذاته فقد شبه الله تعالى بخلقه والله ليس كمثله شيء. وكلامه خطير جداً يخرجه عن كونه من أهل السنة والجماعة قولاً واحداً. لأن أهل السنة ليسوا مشبهة.
ومن قال بأن كلامه فعل من أفعاله وليس صفة من صفاته فقد نفى صفة ثابتة لله تعالى وخرج عن إجماع أهل السنة على أن كلام الله تعالى صفته. وقد عطل صفة من صفات الإله. وأهل السنة ليسوا بمعطلة للصفات. ومع كون هذه المخالفة كبيرة جداً وبدعة في أصول الدين إلا أن قول من قال بذلك أهون من قول من شبه الله تعالى بخلقه.
واعلم أن عبارة الإجماع التي نحيد عنها هي قول المشايخ: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق. ومعناها أن صفة الكلام الثابتة لله تعالى والقائمة بذاته كباقي صفاته والتي تسمى القرآن ليست مخلوقة ولا حادثة. بل هي صفة أزلية أبدية قديمة باقية قدم ذاته تعالى. وأما الورق والكتابة والحروف والأصوات وغير ذلك مما يدل على هذه الصفة القديمة فهي وإن سميّت قرآناً ووجب علينا احترامها وتقديسها فهي حادثة مخلوقة، والذي ينفي كونها حادثة أو مخلوقة فهو جاهل ضعيف العقل أو مكابر صاحب هوى. وكذلك من يقول يجوز قيام الحوادث بذات القديم فهو جاهل أو مكابر صاحب هوى.
والله تعالى الموفق.
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين