بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الفاضل،
ليس هذا أكثر من تناقض اختراعيّ. أعني من اختراع العقل. ويمكنني أن أنسج لك على هذا المنوال تناقضات كثيرة. إلا أنّ هذه ليست بتناقضات حقيقية، ولا وجود لها في الواقع. لذلك فهي لا تعود بالنقض على العلوم البديهية أو المبرهنة، ولا على قواعدها. فلا إشكال في أمثال هذه التناقضات، لأنها مجرد تناقضات يركبها العقل ويتصوّرها دون أن يكون لها في الواقع من أساس.
ففي هذه الصورة التي عرضتها، افترض العقل وجود ما أسماه (أ) وأن هذه القضية تحكم بالكذب على قضية أخرى اسمها (ب). ثمّ يعود العقل إلى (ب) ويجعلها جعلاً تحكم بالصدق على الأولى (أ).
والحقّ أنّ الصدق والكذب قيمتان لا تعرفان ولا تتحققان بمجرد الفرض. بل القضيّة الصادقة هي ما طابق الحكم فيها الواقع. والكاذبة ما عرت عن تلك المطابقة. ونحن حين نقرأ القضية (أ) نجدها تحكم بكذب قضية أخرى هي (ب). وهذا الحكم من القضية (أ) يحتمل أن يكون صحيحاً أو كاذباً. ولتجلية الأمر لا بدّ لنا من الرجوع إلى (ب) وملاحظة النسبة التي فيها بالنسبة إلى الواقع فإن طابقته كانت (أ) كاذبة، وإن خالفته كانت (أ) صادقة. ولكننا في هذه الحال حين ذهبنا لمطالعة (ب) وجدناها تدعي صدق (أ)، وهذا أيضاً حكم قد يكون صادقاً أو كاذباً ولا يعرف إلا بالنظر في نسبة (أ) بالنسبة إلى الواقع. ولكن العلم بصدق (أ) أو كذبها يتوقف على العلم بصدق ب أو كذبها. وكذا العلم بصدق ب وكذبها يتوقف على العلم بصدق أو كذبها. فهذا دور جليّ. لا يمكن معه حلّ المسألة إلا بتغيير ما سميّته المرجعيّة. أي لا بدّ أن يتوقف العلم بصدق أو كذب إحدى القضيّتين على نسبة ثالثة مباينة لكليهما فتلاحظ مع الواقع فإن طابقته أو خالفته علمنا صحة شيء أو بطلانه وبنينا على ذلك في معرفة صحة وبطلان هاتين القضيتين. ودون ذلك يبقى الأمر هكذا معلقاً بلا حل. بل لا يجد الناظر في القضيتين نسبة يستطيع ملاحظتها مع الواقع ليعرف صتحها أو بطلانها. ولا يجد سوى إحالة من الأولى للثانية ومن الثانية للأولى.
ويتوضح الأمر أكثر لو تصوّرنا عمرواً وبكراً يحكمان على مخبر بخبر فقال عمرو: هو كاذب. وقال بكر: هو صادق. فلا يمكننا التحقق من صدق المخبر أو كذبه، ولا من صدق عمرو أو بكر أو كذبهما بالنظر في قوليهما فقط، بل لا بدّ لنا من الرّجوع إلى أمر آخر كخبر المخبر وامتحانه ومطابقته مع الواقع فإن طابقه علمنا صدقه وصدق بكر وكذب عمرو. وإن لم يطابقه علمنا كذبه وكذب بكر وصدق عمرو.
أو سؤال الناس فإن أكد الخبر جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب علمنا صدق الخبر، أو أن ينظر في نفس الخبر فنجد أنه محال عقلاً فنعلم كذبه. فترى أنه لا بدّ من النظر في أمر آخر غير قولي عمرو وبكر للتحقق من الصحة والبطلان. وكذا ههنا. والله أعلم.
أما مثال القرية بحسب ما ذكرته وهو: قرية صغيرة فيها حلاق واحد يحلق لكل من لا يحلق لنفسه، فهل يحلق هذا الحلاق لنفسه؟
فهذا المثال لا أجد فيه أيّ نوع من التناقض بحسب ما ذكرته أنت. لأنّ كلّ واحد من أهل القرية بمن فيهم الحلاق إما أن يحلق لنفسه أو لا. فإن كان ممن يحلق لنفسه فلا يحلق له الحلاق. وإلا فالحلاق يحلق له. فالحلاق إن كان ممن يحلق لنفسه فعل، وإن لم يكن ممن يحلق لنفسه لم يفعل وبقي بلا حلاقة أو بحث عن حلاق في قرية أخرى ليحلق له. فهذا المثال ليس من مصاديق ما ذكرته أولاً بحسب ما أرى.
وهذا ما سمح به الخاطر عند تجواله في المسألتين. أما علماء المسلمين فقد تكلموا في الدور بما لا يخفى على مطلع، ومنعوه في الأقوال الشارحة والقياس، لأنه لا يمكن معه تحقق العلم. كأن تسأل عن أ فيقال لك هي ب، فتسأل عن ب لتستجلي أ فيقال لك إنها أ. وهذا دور مباشر، وهنالك دور بواسطة، كأن تسأل عن أ، فيقال هي ب، فتسأل عن ب، فيقال هي ج، فتسأل عن ج، فيقال هي أ. فهذا مثل الأول غير أنّ سلسلته أطول. ومعه لا يمكن تصوّر أ البتّة. وفي القياس إن لزم الدور أو التسلسل أو بأعمّ المحال والتناقض علمنا بطلان الفرض. لأن الفرض الصحيح لا يمكن أن يلزم عنه محال أو تناقض. أما الفرض الباطل فقد يتفق أن تصدق لوازمه أو تكذب. وهذا الفرض في مسألة رسل لا بدّ وأن يكون باطلاً. لأن كلّ قضيّة من القضيتين أ، وب. إما أن تحتمل الصدق أو الكذب. فالاحتمالات أربعة. وهي أن تكون كلاهما صادقتين، وهو محال. أو تكون كلاهما كاذبتين وهو محال. وأن تكون الأولى صادقة والأخرى كاذبة أو العكس. وهما محالان كذلك. فما يمكن أن نعلمه من ذلك هو أنه يستحيل وقوع قضيتين في الواقع على هذا النحو. أما من حيث الفرض، فإن العقل يمكنه أن يفرض من المحالات والمتناقضات ما يشاء، ولا يحجره عن ذلك شيء. والله تعالى أعلم.