[ALIGN=JUSTIFY]فعلا هذا المقال جيد إجمالا، ومن اللطيف أن ينتبه أحد في العصر إلى بعض مغالطات ابن رشد، وسوف أنقل ههنا ما ذكرته في ردي على كتاب مناهج الأدلة مما يتعلق باعتراضه على دليل الوحدانية
[ALIGN=CENTER]المسألة الثالثة:الوحدانية[/ALIGN]
وقد تكلم ابن رشد على دليل الوحدانية كما يراه، ووجهه على حسب ما يريده، ونحن هنا لا نريد توجيه همنا إلى نقد نفس أدلة ابن رشد، ولكن مرادنا بيان ما وقع فيه من مغالطات أثناء نقده لكلام الأشاعرة. ثم شرع بعد ذلك في مقصوده من نقد دليل الممانعة المشهور الذي اعتمده الأشاعرة، يريد محاولة بيان عدم برهانيته.
فقال في ص67:"ووجه الضعف في هذا الدليل أنه كما يجوز في العقل أن يختلفا قياسا على المريدين في الشاهد، يجوز أن يتفقا، وهو أليق بالآلهة من الخلاف، وإذا اتفقا على صناعة العالم، كانا مثل صانعين اتفقا على صنع مصنوع"اهـ
يريد أنه كما يجوز خلافهما يجوز أيضا وفاقهما، والوفاق يتحقق هنا في صور، وهي أن يتفقا على أن يخلق كل واحد منهما قسما من العالم، أو أن يتفقا على أن يكون واحد منهما آمرا والآخر ناهيا، مثلا، أو غير ذلك من الصور، وحاصلها يعود إلى أن الإله الواحد يخصص من عموم تعلقات إرادته وقدرته في بعض الموجودات دون البعض، وحاصل ذلك أن يكون الواحد منهما مطيعا للآخر في ناحية من النواحي. هذا هو حاصل الاعتراض الذي أورده ابن رشد هنا.
وقد نسي ابن رشد أنه في الصفحة السابقة عندما كان يقرر دليله هو على الوحدانية، قال:"وذلك أنه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان، كل واحد منهما فعله فعل صاحبه، فإنه ليس يمكن أن يكون عن تدبيرهما مدينة واحدة، لأنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد فيجب ضرورة إن فعلا معا فعلا واحدا أن تفسد المدينة الواحدة، إلا أن يكون أحدهما يفعل وينهى الآخر، وذلك منتف في صفة الآلهة، فإنه متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة"اهـ، فإن هذا الكلام يناقض ما ذكره في الاعتراض السابق، كما تراه بعينك، فإنه هناك أجاز الاتفاق، وهنا قال إن الاتفاق لا يليق بصفات الإلهية. ولك أن تتعجب من هذا التناقض ما شئت، ولكنه كما أراه متفق مع طريقة وأهداف ابن رشد في هذا الكتاب، كما وضحناه لك أكثر من مرة.
ثم إن ابن رشد قد نسي أن الإله لا يجوز عليه التخصيص، سواء كان هو المخصص لنفسه أو كان غيره هو المخصص له أو لصفة من صفاته، وهو في اعتراضه السابق أجاز أن يخصص الإله إرادته ليتفق مع الإله الآخر، وهذا باطل، لأن التخصيص علامة الإمكان، كما هو ظاهر، والإمكان والإلهية لا يجتمعان.
وقد أشار العديد من العلماء إلى احتمال أن يتفقا وأتوا بالأدلة على انتفاء أن يقدح ذلك الاحتمال في دليل الوحدانية وعدم تأثيره، واستحالته في نفسه وذكروا ذلك بطرق عديدة، منها ما أورده الإمام العلامة التفتازاني في شرحه على النسفية فقال في ص86:" (الواحد) يعني أن صانع العالم واحد ولا يمكن أن يصدق مفهوم واجب الوجود إلا على ذات واحدة، والمشهور في ذلك بين المتكلمين برهان التمانع المشار إليه بقوله تعالى(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وتقريره أنه لو أمكن إلهان لأمكن بينهما تمانع بأن يريد أحدهما حركة زيد والآخر سكونه، لأن كلا منهما في نفسه أمر ممكن، وكذا تعلق الإرادة بكل منهما، إذ لا تضاد بين الإرادتين بل بين المرادين، وحينئذ إما أن يحصل الأمران فيجتمع الضدان، أو لا فيلزم عجزهما، أو يحصل أحدهما فيلزم عجز أحدهما وهو أمارة الحدوث والإمكان لما فيه من شائبة الاحتياج. فالتعدد مستلزم لإمكان التمانع المستلزم للمحال فيكون محالا.وهذا تفصيل ما يقال إن أحدهما إن لم يقدر على مخالفة الآخر، لزم عجزه وإن قدر لزم عجز الآخر. وبما ذكرنا يندفع أنه يجوز أن يتفقا من غير تمانع أو أن تكون الممانعة والمخالفة غير ممكنة لاستلزامها المحال أو أن يمتنع اجتماع الإرادتين إرادة الواحد حركة زيد وسكونه مثلا."اهـ
فهذا هو الدليل الذي وجه ابن رشد همه إلى تضعيفه وإيراد الشكوك عليه، وتأمل كيف هدم التفتازاني الشك الذي اعتمد ابن رشد عليه وبين تهافته بكل يسر وسهولة.
وقد نص على انهدام هذا الإيراد والتشكيك في نفسه الإمام العلامة الشيخ الدردير في شرحه على خريدته في علم التوحيد في ص 24:"فالتعدد مستلزم لإمكان التمانع المستلزم للمحال فيكون التعدد محالا، وبما ذكر اندفع ما يقال إنه يجوز أن يتفقا من غير تمانع، وحاصل الدفع أن الإمكان محال وإن لم يقع تمانع بالفعل."اهـ أي إنه يكفي في قيام الدليل على الوحدانية أن يستلزم فرض إله آخر إمكان المحال وهو إمكان التمانع، ولا يجب لصحة دلالته أن يكون دالا على وقوع التمانع بالفعل.فافهم.
وقد ذكرتُ في تهذيب شرح السنوسية خلاصة هذا الدليل على صورة حسنة واضحة وها أنا أنقلها إليك الآن:" لو كان معه مماثل في الألوهية للزم عجزهما سواءا اتفقا أو اختلفا أو اقتسما، فكل من هذه الأقسام، إماأن يكون اضطراريا أو اختياريا، فإن كان اضطراريا لزم قهرهما وعجزهما فينتفي العالم، ونفي العالم محال. وإن اتفقا اختيارا فيتعرض لهما جوهر فرد فإن أوجداه معا لزم انقسام ما لا ينقسم وهو محال، لأن الجوهر الفرد لا يقبل الانقسام، وإن أوجد أحدهما عين ما أوجده الآخر لزم تحصيل الحاصل وهو محال، وإن أوجده أحدهما وعجز الآخر، فالآخر ليس بإله لأنه عجز والإله ليس بعاجز، والذي قدر على فعله أيضا ليس بإله لأن الفرض أنه مثل للآخر، ومثل العاجز عاجز. وإن عجز الاثنان فهما ليسا بإلهين، وإذا لزم عجزهما عن إيجاد هذا الجوهر لزم عجزهما عن سائر الممكنات لأنه لا فرق بين ممكن وممكن. وإن اختلفا بأن يريد أحدهما حركة جسم في زمان واحد ويريد الآخر سكونه في ذلك الزمان بعينه، فلا يصح أن يحصل مرادهما لما فيه من الجمع بين الضدين ولا يصح عدم مرادهما لما فيه من ارتفاع الضدين مع قبول الجسم لهما، ولا يصح أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر لأن عجز أحدهما دليل على عجز الآخر لأنه مثله، وإن اقتسما اختيارا لزم عجز كل واحد منهما مما عند صاحبه لأن شرط الإله يجب أن تكون قدرته عامة التعلق بجميع الممكنات. ومن هذا البرهان تعلم أن الإله واحد. "اهـ
ومن هنا تعلم أن المبالغة التي قام بها ابن رشد في سبيل التشكيك في هذا الدليل، لم تكن مبنية على أسس عقلية حسنة، بل على دوافع أخرى سبق أن أشرنا إليها. فتأمل!
ثم قال ابن رشد في ص68:"فإذا ليس ينبغي أن يفهم من قوله تعالى(ولعلا بعضهم على بعض)من جهة اختلاف الأفعال فقط، بل ومن جهة اتفاقهما، فإن الأفعال المتفقة تتعاون في ورودها على المحل الواحد"اهـ
أقول: إن المتكلمين وضحوا كما ذكرنا أن دليل التمانع يجري في حال التوافق وفي حال التمانع، وكلام ابن رشد هذا إنما خرج منه عندما جهل ما الذي قرره المتكلمون. وقد وضحناه نحن لك سابقا، فيبين لك تهافته هنا.
فائدة
ولئلا يعتقد أحد مغترا بكلام ابن رشد أن الأشاعرة الذين عرفوا وجه الرد على حالة الاتفاق المفترضة هم المتأخرون فقط، فإننا نورد لك الآن بعض ما قاله المتقدمون في إبطال حالة التوافق المفترضة هذه.
قال الإمام الباقلاني في كتاب الإنصاف ص50 بعد أن أورد دليل التمانع:"فإن قيل فيجوز أن لا يختلفا في الإرادة. قلنا هذا القول يؤدي إلى أحد أمرين، إما أن يكون ذلك لقول أحدهما لآخر لا تُرِدْ إلا ما أريد، فيصير أحدهما آمرا والآخر مأموراً، والمأمور لا يكون إلها، والآمر على الحقيقة هو الإله، أو يكون كل واحد منهما لا يقدر أن يريد إلا ما أراده الآخر ولو كان كذلك دل على عجزهما، إذ لم يتم مراد واحد منهما إلا بإرادة الآخر معه. وإذا ثبت هذا بطل أن يكون الإله إلا واحدا على ما قررناه."اهـ
وكذلك فقد قرر امتناع التعدد بناءا على تجويز التوافق في الإرادة الإمام الجويني أيضا في كتاب الإرشاد، فقال في ص53:"فإن قيل: رتبتم هذه الدلالة على اختلاف إرادتي القديمين، فبم تنكرون على من يعتقد قديمين يريد كل واحد منهما ما يريده الآخر؟ قلنا هذه الدلالة مطردة على تقدير الاختلاف كما قررناه، وهي مطردة أيضا على تقدير الاتفاق، فإن إرادة تحريك الجسم من أحدهما مع إرادة الثاني تسكينه ممكنة غير مستحيلة، وكل ما دل وقوعه على العجز والاتصاف ببعض القصور دل جوازه على مثله، والدليل عليه أن من اعتقد جواز قيام الحوادث بالقديم، ملتزما ما يفضي إلى الحكم بحدثه، نازل منزلة من يعتقد قيام الحوادث به وقوعا وتحققا، والجاري من أحد المحدثين في تنفيذ إرادته المتصدي لأن يمنع عرضة للنقص، كالمصدود عما يريده حقا بتسوية بين من يجوز ضده وبين من اتفق رده."اهـ
وأيضا فقد رد ذلك الاحتمال الإمام الغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد، فقال في ص 107وذلك بعد أن أبطل احتمال أن يقتسم الإلهان الكون فيوجد واحد منهما قسما ويوجد الثاني القسم الآخر:"فإن قيل مهما أراد واحد منهما خلق جوهر ساعده الآخر على العرض، وكذا بالعكس، قلنا هذه المساعدة هل هي واجبة لا يتصور في العقل خلافها فإن أوجبتموها فهو تحكم بل هو أيضا مبطل للقدرة، فإن خلق الجوهر واحد كأنه يضطر الآخر إلى خلق العرض، وكذا بالعكس فلا تكون له قدرة على الترك ولا تتحقق القدرة مع هذا. وعلى الجملة فترك المساعدة إن كان ممكنا فقد تعذر العقل وبطل معنى القدرة والمساعدة إن كانت واجبة صار الذي لا بد له من مساعدة مضطرا لا قدرة له."اهـ
وكذلك فقد رد على ذلك الإمام الشهرستاني في كتابه نهاية الإقدام.
فهذه نصوص صريحة تدل على أن الأئمة المتقدمين كالمتأخرين تنبهوا إلى هذا الاحتمال وردوه، كل واحد منهم رده بأسلوبه الخاص، وأدلتهم على ذلك قطعية للمتأمل، وللقارئ بعد ذلك أن يتعجب من ابن رشد كيف يدعي أن الأشاعرة لم ينتبهوا إلى ذلك الاحتمال، أو إنهم لم يستطيعوا الردَّ عليه، فهل هذا إلا مقارب للكذب والتدليس عليهم؟!
واعلم أن المتكلمين قد فهموا من الآية (لو كان فيهما آلهة ..) دليلين وليس دليلا واحدا على التوحيد، الأول من الإشارة، والثاني من العبارة. فالذي من الإشارة هو دليل التمانع، وهو الذي سبق أن وضحناه لك، وأما الذي من الإشارة، فهو يعتمد على أن الآلهة المتعددة يجب عادة أن تختلف، واختلافها يجب أن ينتج عنه فساد العالم ولو بعد وجوده.
وقد أشار العلامة الدسوقي في حاشيته على شرح أم البراهين إلى هذين الدليلين، فوضح أن الدليل لو أقيم على أساس انتفاء العالم وفساده ولو بعد وجوده، دان دليلا إقناعيا، أما لو أقيم بناءا على أن التعدد ينتج عنه عدم وجود العالم أصلا فإنه يكون قطعيا لا خطابيا، فقال في ص163:"وهذا البرهان هو المشار إليه بقوله تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وهو دليل قطعي لا إقناعي خلافا للسعد، حيث قال إنه إقناعي وهو مبني على أن المراد بالفساد اختلال نظامهما، وأما لو قلنا إن المراد بالفساد عدم الوجود أصلا كان الدليل إقناعيا."اهـ
وأما قول ابن رشد في ص68:"وقد يدل على أن الدليل الذي فهمه المتكلمون من الآية ليس هو الدليل الذي تضمنت الآية، أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم غير المحال الذي أفضى إليه الدليل المذكور في الآية"اهـ
كذا قال، والحقيقة الواضحة أن المتكلمين قد فهموا دليلين كما وضحناه له سابقا، والمحال اللازم من الدليل المذكور من الآية هو فساد العالم، وفساد العالم يصدق بعدم وجوده أصلا، أو بفساده واختلال أركانه ولو بعد وجوده. وهذان اللازمان يلمان عن دليلي المتكلمين.
والحقيقة البينة بعد النظر في الآية أن الآية ناظرة إلى العالم في هذا الآن، وملاحظة وجوده، وانتظامه، ثم وبعد استحضار هذه الحالة، تفرض أنه يوجد إلهان، فالحاصل بعد هذا الفرض في تلك الحالة، هو فساد العالم، وفساد العالم في تلك الظروف والأحوال، يحتمل كلا من اللازمين المحالين، وهما اختلال أركان النظام في العالم، والثاني انعدامه أصلا. وأنت تعلم الآن أن اللازم الثاني هو المحال اللازم من دليل التمانع المأخوذ بالإشارة، واللازم الأول هو المحال اللازم من الدليل المأخوذ من العبارة. وكل هذا قد وضحه المتكلمون ولم يحم حوله ابن رشد ولا غيره.
وقد أودع ابن رشد في هذه المسألة كثيرا من مغالطاته التي قد تخفى على كثير من الناظرين في كتابه هذا، ولكننا اكتفينا بإبراز هذه الأمور السابقة، لتكون تنبيها للنبيه، وكاشفة لغيرها من المفاسد المودعة فيه. [/ALIGN]
وليس لنا إلى غير الله تعالى حاجة ولا مذهب