4) كان اعتناء أهل الكوفة بالحديث يسيراً، وقلّت الرواية عندهم:
ويجاب عنه: بأن الرواية والعناية بالحديث كانت على درجة عالية جداً:
قال الإمام الرامهرمزي - رضي الله عنه - (ت360هـ): عن ابن سيرين - رضي الله عنه -، قال: ((أتيت الكوفة فرأيت فيها أربعة آلاف يطلبون الحديث، وأربعمئة قد فقهوا)).
وفي أي مصر من أمصار المسلمين، غير الكوفة، تجد مثل هذا العدد العظيم للمحدثين، والفقهاء، وفي هذا ما يدل على أن الفقيه مهمته شاقة جداً، فلا يكثر عدده كثرة عدد النقلة.
وقال الإمام الرامهرمزي والإمام السمعاني (ت562هـ) - رضي الله عنهم -: ((عن عفّان يقول ـ وسمع قوماً يقولون: نسخنا كتب فلان، ونسخنا كتب فلان ـ، فسمعته يقول: نرى هذا الضرب من الناس لا يفلحون، كنّا نأتي هذا فنسمع منه ما ليس عند هذا، ونسمع من هذا ما ليس عند هذا، فقدمنا الكوفة فأقمنا أربعة أشهر ولو أردنا أن نكتب مئة ألف حديث لكتبناها، فما كتبنا إلا قدر خمسين ألف حديث، وما رضينا من أحد إلا بالإملاء، إلا شريكاً، فإنه أبى علينا، وما رأينا بالكوفة لحاناً مجوزاً)).
قال الإمام الكوثري - رضي الله عنه -: ((أنظر، مصراً يكتب بها ـ مثل عفّان ـ في أربعة أشهر خمسين ألف حديث! مع هذا التروي، ومسند أحمد أقل من ذلك بكثير، أيعد مثل هذا البلد قليل الحديث؟!
على أن أحاديث الحرمين مشتركة بين علماء الأمصار في تلك الطبقات، لكثرة حجهم، وكم بينهم من حج أربعين حجة وعمرة، وأكثر، وأبو حنيفة - رضي الله عنه - وحده، حج خمساً وخمسين حجة، وأنت ترى البخاري - رضي الله عنه - يقول: ولا أحصي ما دخلت الكوفة في طلب الحديث، حينما يذكر عدد ما دخل باقي الأمصار، ولهذا أيضاً دلالته في هذا الصدد)).
وأيضاً، فإن التابعين من محدثي الكوفة وفقهائها لم يكونوا يتلقون الحديث عن الصحابة - رضي الله عنهم - الموجودين في الكوفة فحسب، بل تلقوا الحديث من الصحابة - رضي الله عنهم - في الحجاز، ورحلوا طلباً لذلك، فقد روى ابن سعد في ((طبقاته)) أسماء مئتين واثنين من التابعين الكوفيين، الذي رووا عن كبار الصحابة - رضي الله عنهم - في مكة والمدينة.
وفيما سبق من كلام تفنيد لشبهة أخرى، وهي قلّة الرواية والحديث في عصر التابعين وأتباعهم واشتهار الرواية وكثرتها في عصر الإمام الشافعي والإمام أحمد - رضي الله عنهم -.