بسم الله الرحمن الرحيم
أخي أحمد،
قولك: (ففي الألوان أرجعنا السبب العادي إلى وضع أجزاء الجسم فإلى أي شيء يمكننا أن نرجع سبب اختلاف الصوت من شخص لشخص ومن كائن إلى كائن، لا بأس من أن تعطيني لمحة بسيطة عن هذه المسألة أو كما ترى)
أقول: إذا أردت تكلّمنا في الصوت بعد الفراغ من الضوء، حتّى لا تنتشر المسائل. لكن الصوت الناشئ عن قرع الأجسام أو قلعها إذا سلّمنا أن بنية كلّ مادة هو الجزء الذي لا يتجزّأ، وثبتنا جميع المتغيّرات المتعلّقة بآلة الإدراك التي هي الأذن، وكذا المتغيّرات المتعلّقة بالوسط الناقل للصوت، والمتغيّرات المتعلّقة بالقارع أو القالع، فإن عدد الأجزاء المكوّنة للجسم المصوّت ووضع تلك الأجزاء بالنسبة لبعضها البعض ووضع الجسم بالنسبة لغيره من الأجسام المحيطة هي الأسباب العاديّة الظاهرة المحدّدة لصفات الصوت المسموع. والله تعالى أعلم.
قولك: (هل تعليل عدم الإطلاق هو أن هناك أجساما لا ندرك لها لونا كالماء مثلا والزجاج، ولأننا ربما أدركنا بعض الألوان حيث لا ضوء كما في حالة النوم. هل هذا التعليل صحيح أم أن هناك تعليلا آخر)
أقول: تعليل كون الضوء ليس شرطاً في إدراك اللون مطلقاً، هو أنّ الإدراك عندنا مع أنّ له أسباباً عاديّة إلا أنه يحصل لنا بخلق الله تعالى. فيمكن عقلاً حصوله بلا ضوء، ويمكن وجود الضوء وغيره من
الأسباب والشروط العاديّة له ولا يحصل. هذا عقلاً. أمّا عادة، فعدم الإطلاق تحرّزت به عن وجود أجسام كالملائكة والجان وغير ذلك مما لا يرى بآلة عيوننا هذه أصلاً. وعمّا يمكن وجوده من الأجسام مما ليس من شأنه أن يدرك له لون.
قولك (الإشكال الأول: بما أننا نرى اللون ولا حقيقة له في الخارج؛ إذن ربما رأينا أشياء أخرى نحسبها ثابتة وهي لا حقيقة لها في الخارج، وفي هذا فتح لباب كبير من الشك فيما حولنا من الموجودات)
أقول: يا أحمد أنت ترى السراب ماء ولا وجود للماء في الخارج. ولكنك ترى أثراً أعني زرقة الماء لموجود حقيقيّ في الخارج، وليس ذلك الموجود هو الماء أو زرقة الماء. فالأثر اللازم عن الموجود الخارجيّ في حال السراب قريب جداً من الأثر اللازم عن وجود الماء في الخارج، فيحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً مما حسبه، بل وأكثر من ذلك، إنّك تنظر للأجسام فتراها على هيئة معيّنة، فمن أين يلزم أنّ ما تراه هو ما عليه المرئيّ في نفس الأمر؟!
إنّ ما نراه بواسطة العين لوناً يا سيّدي هو لازم عاديّ من لوازم بعض الأجسام، فيفيدنا تصوّراً للمرئيّ من جهة من الجهات، وهذه الصورة التي تحصل عند النفس كافية لبناء الأحكام القانونيّة العاديّة عليها، فلا ترتفع الثقة بحواسنا بسبب أنّ ما نراه لوناً ليس هو عين الموجود في نفس الأمر. وكلّ ما درتُ عليه فيما مضى هو أن أثبت أنّ اللون لا وجود له في الخارج كصفة ذاتيّة للأجسام، بل هو لازم من لوازم بعض الأجسام. فإذا رأت عين شيئاً بلون أحمر مثلاً، ورأت في الظروف نفسها شيئاً آخر بلون أزرق، علم الرائي أنّ ثمّة اختلافاً وجوديّاً بين الشيئين، لأنّ أثر الأوّل مغاير لأثر الثاني. وبصرف النظر عن حقيقة ذلك الشيء الموجود الذي تسبب في الأثر الأوّل أو الثاني، فيمكننا أن نبني أحكامنا العاديّة على أساس من اختلاف هذين الموجودين وعدم تساويهما من كلّ وجه، وتكون هذه الأحكام العاديّة علوماً عاديّة وقانونيّة، لأنها لازمة عن الواقع غير المنكشف لنا على ما هو عليه. والذي أعتقده هو أنّ الانكشاف التامّ لحقيقة أيّ شيء بحيث يعلم علماً تامّاً كاملاً لا نقص فيه ولا مزيد عليه، ويكون مطابقاً لما هو عليه ذلك الشيء في نفس الأمر، ليس ممكناً للحادث. والله أعلم.
قولك: (بما أن إدراك اللون هو انفعال النفس، والله تعالى منزه عن الانفعال؛ إذن فالله تعالى منزه عن إدراك اللون)
أقول: لا شكّ أنّ الإدراك أعمّ من أن يكون انفعالاً، لأنّ الله تعالى يقول: (لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار)، فالإدراك ثابت لله تعالى واجب له سبحانه بخلاف الانفعال المنفيّ عنه لاستحالته على القديم سبحانه وتعالى. ولا يلزم من ثبوت الأعمّ ثبوت الأخصّ. فكلامك مخدوش.
قولك: (ومعنى هذا أن رؤية الألوان كمال نسبي لا يليق بالله تعالى)
أقول: كيف انتقلت من ثبوت كون رؤية اللون إدراكاً إلى إثبات كونه كمالاً نسبيّاً لا يليق بالله تعالى؟
قولك: (فهل هذا الكلام صحيح عند أهل السنة؟)
أقول: الكلام الصحيح عندنا هو أنّ الله تعالى يثبت له كلّ كمال مطلق، ويثبت له الإدراك المغاير لإدراك كلّ مُدرِك مما سواه، أما نفيك لإدراكه تعالى للألوان لكون إدراك الألوان انفعالاً، والانفعال يستحيل عليه تعالى، فغير صحيح، لأنّ كلامنا إنما كان في الإدراك الحادث المشروط بالشروط العاديّة، وليس في الإدراك القديم غير المتوقّف عليها. نعم إدراكنا نحن الذي هو انفعال للنفس يستحيل على الله تعالى، ولكن الإدراك مطلقاً ثابت له تعالى، وانتفاء الإدراك المقيّد لا يلزم منه نفي الإدراك مطلقاً.
قولك: (لا يقال إن إدراك الله تعالى للون مخالف لإدراكنا؛ إذ أنكم جعلتم حقيقة اللون إنفعالا للنفس مترتباً ترتبا عاديا على أسباب)
أقول: أنا جعلت إدراكنا للون للجسم انفعالاً للنفس، ولم أجعل إدراك الله تعالى انفعالاً، فلا يتوجه الاعتراض.
والله تعالى قطعاً عالم علماً تاماً بجميع انفعالاتنا، فكيف تقول إنّ ما ندركه نحن عن طريق انفعالانا لا يدركه الله تعالى؟!
بل يجب أن تقول إن الله تعالى عالم علماً تامّاً بجميع انفعالاتنا وإدراكاتنا، وعلمه بانفعالاتنا يقتضي إدراكه تعالى للألوان، ولا يلزم منه أن يكون إدراكه وعلمه هذا انفعالاً. لأنّ الإدراك أعمّ من أن يكون حاصلاً بالانفعال. فالذي ننفيه عنه تعالى هو أن يكون إدراكه للّون الذي أدركناه حاصلاً له بالانفعال، ولا يلزم من نفينا عنه الإدراك الانفعاليّ أن ينتفي عنه إدراك ذلك اللون -الذي أدركناه- بلا انفعال.
قولك: (فإن قيل: رؤيتنا للأشياء هي انفعال أيضاً، ورؤية الله تعالى للأشياء لا انفعال فيها، فكذا يقال في رؤية اللون. قلت: هناك فرق بين رؤية الأشياء وبين رؤية اللون؛ إذ الأشياء لها وجود خارجي، أما اللون فلا وجود له في الخارج إذ أنه محض انفعال، فكلامكم قياس مع الفارق)
أقول: بل القيل مستقيم متوجّه عليك. وليس ثمّة فرق بين رؤية الشيء ورؤية لونه من جهة وجود المرئيّ وعدمه، لأنّك لا ترى نفس الجسم بل ما تراه أي تدركه بالبصر هو صورة تحصل له عندك بسبب انفعالك للأشعة المرتدة عنه المتكيّفة بكيفيّة معينة، هذه الكيفيّة لازمة عن حقيقته الموجودة في الخارج على نحو ما، وهذا الكلام يقال أيضاً في إدراكك للّون دون فرق. فما تراه ليس هو عين الشيء الموجود في الخارج على ما هو عليه في نفس الأمر، وكذا اللون. ألا ترى أنّ الصورة الحاصلة للشيء عندك من طريق العين تختلف ما لو نظرت إلى الشيء عينه بمجهر، ومهما اخترعت من الآلات فلا يمكنك وأنت محكوم بهذه الآلة التي هي العين أن تصل إلى رؤية تامّة، أي إدراك تامّ كامل للمرئيّ، يكون مطابقاً لما عليه المرئيّ في نفس الأمر. لأنّ النقص ملازم للآلات لا ينفكّ عنها. فتبيّن أنه لا فرق بين إدراك اللون وإدراك الصفات الأخرى للجسم من حيث هو إدراك بواسطة العين له سبب موجود في الخارج يرجع له ذلك الإدراك.
قولك: (المقصود من الأجزاء هل هو وحدات متماثلة تماماً تزداد مساحة المادة طرديا بزيادتها؛ أم المقصود الأجزاء المختلفة التي تتركب منها كل وحدة وتتنوع المادة بحسب تركيب الوحدة من تلك الأجزاء وعددها؟)
أقول: الأجزاء أعمّ من الجزء الذي لا يتجزأ. فمهما حصل اختلاف في محصّلة وضع الأجزاء بالنسبة لبعضها ولغيرها، سواء حصل ذلك بتغيير وضعها مع ثبوت عددها، أو بزيادة عددها أو نقصانه، أو غير ذلك من الطرق الممكنة لتغيير محصّلة وضعها المذكور، فإن من شأن ذلك أن يؤدي إلى تغيّرها على نحو يؤثر في إدراكنا للون لها. والله أعلم.
قولك: (ولكن ما هي هذه الأجزاء التي تتركب منها الوحدة، هل هي البروتونات والنيوترونات والنواة والإلكترونات، هل النواة هي الحاوي للبروتونات والنيوترونات أم هي ناتج تركبهما أم شيء آخر؟)
أقول: ليكن كلامنا في المفاهيم لا في ماصدقاتها، فأياً كانت الأجزاء المركّبة للمادة ذات اللون، فهي أجزاء كائنة ما كانت. واعلم أنّ النواة مركبة من النيوترونات والبروتونات وطاقة وضع هائلة تحافظ على ثبات نسبيّ لها، وأنّ البروتون نفسه مركب، وكذلك النيوترون مركب.
قولك: (بالنسبة لوضع الأجزاء المذكورة، فلا أعتقد أنه يختلف من وحدة لوحدة أو من مادة لمادة؛ إذ كل مادة تتركب من ذرات، وكل ذرة تتركب مما ذكر، فتحتوى النواة على البروتونات والنيوترونات وتدور حولها الإلكترونات، والذي يختلف من مادة إلى مادة هو أعداد المذكورات، فهل العدد وحده يمكن أن يكون سببا لاختلاف الألوان ؟!! )
أقول: المادة التي من شأنها أن يدرك لها لون أعمّ من أن تكون عنصراً بسيطاً أو مركّباً بالمعنى الكيميائي، وهذه الوحدات المذكورة هي مركّبات أيضاً من أشياء أصغر منها، فإذا كنت تسلّم تركّب مطلق المادة من الجزء الذي لا يتجزأ، فالأجزاء التي نتكلّم في اختلاف أوضاعها لتكن هي الأجزاء التي لا تتجزأ. لا إشكال، وعددها وحده قد لا يكون وحده كافياً لتغيير لون الجسم المركب، مع أنه سيغيّر في وضع الأجزاء بالنسبة لبعضها البعض على نحو ما.
ويبدو لي الأمر أشبه بمحصّلة قوى، حيث يمكن تجميع عدد من القوى بطرق لا حصر لها بحيث يكون لها دائماً محصّلة واحدة، وكذا الأمر بالنسبة لتركيب الأجزاء بنسب وأوضاع معيّنة، فإني أتصور أن يتمّ تركيب أعداد مختلفة من الأجزاء بحيث يكون محصّلتها ككلّ تأثرنا بالشعاع المرتد عنها بلون واحد. ألا ترى بعض المواد يبقى لونها واحداً عندك مع زيادتك لكمّيتها تحت نفس الظروف.
قولك: (ولعلك تقول: بُعد الذرات عن بعضها عامل في اختلاف اللون، فأقول: يلزم من ذلك أن الغازات التي لا لون لها والسوائل التي لا لون لها تكون المسافة بين ذراتها أبعد منها فيما له لون وهذا يحتاج للاستقراء)
أقول: لا يلزم من الاشتراك في اللوازم الاشتراك في الملزومات. فوجود لون واحد لشيئين لا يلزم منه أن لهذين الشيئين نفس التركيب والترتيب في وضع الأجزاء، فربّما كان الأمر كذلك وربّما كان السبب أمراً آخر وراء ذلك. كما أشرت إليه في محصّلة القوى. ثمّ عدم اللون ليس لوناً، فلا يدلّ عدم لونيّة شيئين على تساويهما في التركيب والترتيب الوضعيّ، بل كلامنا كان فيما له لون. أي أنه إذا دلّنا اللون على تركيب ووضع معيّن، فلا يدلّنا عدم اللون على عدم التركيب مطلقاً. وكذا لا يدلّنا عدم لوني شيئين على اتفاقهما في التركيب ووضع الأجزاء، فربّما كان ثمّة عدّة تراكيب وأوضاع ليس من شأنها أن يدرك لها لون معيّن.
قولك: (فإن سلمتُ بهذا في الغازات والسوائل، فلا أسلمه في الصلب؛ إذ أن الزجاج لا لون له، ومعلوم أن صلابة المادة تتأثر بالمسافة بين الذرات، فيلزم من ذلك أن الزجاج أضعف الصلبيات، وهو باطل بالمشاهدة؛ إذ أن الورق أضعف منه بالرغم من أن له لونا، فإذا بطل كون المسافة بين الذرات مؤثرة في لون المادة الصلبة؛ كان تأثيرها المزعوم في الغاز والسائل ضربا من التخمين لا يعتد به في المسألة)
أقول: مضى الجواب عن أصله.
قولك: (هل العدد وحده يمكن أن يكون سبباً لاختلاف الألوان ؟!! )
أقول: مضى الجواب عنه.
قولك: (لو سلمتُ بهذا فإن اللازم على القول بارتباط العدد بالألوان، أن تكون المواد المختلفة المتقاربة في الأعداد المذكورة متقاربة أيضاً في الألوان، والعكس صحيح)
أقول: مضى الجواب عليه، بأنّ عدد أجزاء المركّب ليس وحده المسؤول عن لونه.
قولك: (فإن ثبت أن هناك مادتين متقاربتين في الأعداد ومتباعدتين تماماً من حيث الألوان أو العكس، فإن نظرية ارتباط اللون بعدد الأجزاء ستنهار بلا شك)
أقول: وجود علاقة لعدد الأجزاء في تحديد لون بعض الأجسام ليس معناه أنه إذا كان عدد أجزاء مادة معيّنة مساوياً لعدد أجزاء مادة ثانية أنّ لهما نفس اللون، ولا أنه كلّما اقترب عدد أجزاء مادّة معيّنة من عدد أجزاء مادّة ثانية أنه يقترب لون الأولى من لون الثانية. فيمكن تصوّر علاقات أكثر تعقيداً من ذلك. ألا ترى أنّ بعض المواد إذا زدتَ أجزاءها تغيّر شدّة لونها.
وفقك الله تعالى يا أحمد، يعجبني جلدك، ولكني أراك تستعجل في الحكم، وتبني عليه أحكاماً أخرى قبل أن تستيقن صحّته. والكلام في الطبيعيّات شائك لكثرة الاحتمالات والمتغيّرات، فيلزم الخائضين فيها الرويّة، وعدم القطع قبل تحصيل دليل قاطع، وتقييد الأحكام بالحالات المسبورة قدر الإمكان، وعدم تعميمها إلا بعد استيقان علّة التعميم. والله تعالى أعلم.
الأخ الفاضل جمال،
قولك: (ولي اعتراض بسيط، ما الذي يجعل لكل عنصر كيماوي لونا خاصا لطيفه، فالصوديوم إذا بخر فإن لون طيف بخاره أصفر، وما الذي يجعل لون العناصر المتأكسدة يتغير إن لم يكن اللون ظاهرة خارجية واقعية)
أقول: قد سبق الجواب عن هذا السؤال يا أخي جمال. بأنّ اللون إدراك لازم عن أمر واقع في الخارج، وليس هو عين الأمر الخارجيّ. وكلامنا في ذلك. أيّ أنّ كلامنا في أنّه هل اللون بذاته صفة موجودة للشيء قائمة به، أم أنه إدراك لازم عن كون الجسم المرئيّ في حالة معيّنة، بحيث يبدو لنا عند النظر إليه بالعين ملوناً بلون ما. ولم أنف مطلقاً وجود شيء في الواقع الخارجيّ يكون سبباً عاديّاً قانونيّاً لظهور هذا اللون دون ما عداه.
والله تعالى الموفّق، وهذا ما تيسر
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين