بارك الله تعالى فيك ونفع بك أيها الأزهري الفاضل،
أنا أحب أن أقرأ لك وكل ما تكتبه فهو مفيد.
ومع ذلك فلا يلزم من ذلك عدم النقد على ما تقول، بل لي عليه بعض الملاحظات أرجو أن يتسع صدرك وهو كذلك لسماعها:
أولا: هذه الطريقة التي اتبعتها في الحكم على الدارمي في نظري ليست سديدة، بل يترتب عليها عدة محظورات، منها رفع الثقة بالكثير منا الكتب التي وردتنا، فبإمكان أي واحد أن يقول هذه العبارة دست على ابن عربي أو هذه العبارة قد زيدت في كتب ابن تيمية، كما تقول أنت أن هذه بعض العبارات قد دست في كتاب الدارمي إن صح أنه له.
ثانيا: ترى كيف نستطيع الرد على من يطبق هذا الأسلوب على ابن تيمية نفسه، فيقول إن بعض العبارات التي اعترضنا عليه لأجلها قد دست عليه. خاصة أن كتبه لم تصلنا على سبيل التواتر، بل آحادا متفرقة، كما تعلم. ولا يوجد أسانيد حسب علمي متصلة وثابتة بابن تيمية لكتبه.
ثالثا: إنك ستبعدت أن تكون بعض العبارات الواردة في كتاب الدارمي له، لأنها على حسب تعبيرك تحتوي على تعبيرات كلامية معقدة، واستبعدت أنت أن يكون الدارمي المشتغل بالحديث قائلها. وهذا عندي ليس بقوي، لأمور عديدة، منها أن هذا لا يمنع ذلك، ولا تعارض بينهما، فيمكن أن يوجد محدث مطلع علىعلم الكلام، خاصة إذا كان داعية له، مدافعا عنه، وألا يوجد محدثون أشاعرة ومتثبتون من اصطلاحات علم الكلام؟ ومنها أن ذلك العصر كانت الخلافات فيه على أوجها بين الفرق الإسلامية، والسجال بينها مشهورا، والمطلع على ما نقله الأشعري وكثير غيره عن أهل تلك العصور التي نعتبرها متقدمة، يستغرب كثيرا مما يجده في ثناياها من دقيق الاصطلاحات، والكلام في الكثير من الدقائق التي أخذها عنهم من بعدهم. ثم إنني لا أسلم أن ما نطق به الدارمي من قوله "كلها أفعال في الذات للذات وهي قديمة" وغيره، فهذا القول سهل يسير، بل هو معبر عن حقيقة عقائد المجسمة والبعض الكرامية وبعض من انتسب للمحدثين كالدارمي، وادعى أنه يحقق عقائد أهل السنة، وليس هذا قولا معقدا حتى نستبعد أن يصدر من واحد ألف مثل هذا الكتاب.
رابعا: إن ما أشرت إليه من تناقض، على التسليم به، فهذا لا يستدعي الشك في نسبة الكتاب للدارمي، وهل التناقض بين العبارات التي يقول بها هو، أعظم من التناقض مع العقائد الضرورية حتى يكون هذا دليلا على أنه لم يقله، وذاك ليس دليلا. أقصد: إذا كان تناقضه مع كلام نفسه يصح أن يتخذ دليلا على أنه لم يقله، ألا يجب القول عندذاك، أن تناقضه مع العقائد الصحيحة دليل على أنه لم يكتب هذا الكتاب؟؟ إن من البين أن هذا لازم، وعندذاك، يصح أن يتم براءة كل من انتسب إلى الحديث من كل قول قاله بحجة أنه منتسب وحافظ للحديث؟؟ وأين تذهب مما في كتاب ابن خزيمة الذي لا أعرف أحدا شكك في نسبته إليه، حتى الآن، وأين تذهب من كتاب العلو للذهبي، بل ماذا تقول في كتب ابن تيمية نفسه، وهو لا شك أنه من المشتغلين بالحديث، وأين تذهب مما قيل في حق كثير من المحدثين الذين مالوا إلى الحشو، هل نستطيع بناء على ذلك أن نبرئهم جميعا مما قالوا، لمجرد أنهم اشتغلوا بالحديث.
ألا يلزم بشكل أولى أن ننزه الحافظين لكتاب الله تعالى من أن يكونوا قد قالوا أي شيء يخالف العقائد الصحيحة، وذلك لمجرد أنهم حفظوا كتاب الله تعالى.
ولذلك السبب نفسه، ولكن بشكل آخر، فأنت أيها الأخ العزيز تذهب إلى براءة ابن عربي أو على الأقل إلى عدم الجزم بأنه قائل بما ينسب إليه من وحدة الوجود، والحجة في ذلك عندك يجب أن تكون أنه اشتر كونه من الأولياء الصالحين، والعباد المعدودين. ألم يكن ابن كرام زاهدا، وألم يكون صاحب منازل السائرين صوفيا كبيرا، وكذلك كثير غيرهم.
إن هذه الطرق للترجيح ونقد ما في الكتب واتخاذ مواقف منها ومن أصحابها لا تنفع عندي؟
خامسا: إن العبارة التي نقلتها ليست صريحة في التناقض، فإن القسم الأول منها يقصد منه بالمفعولات الأفعال القائمة بذات الله تعالى غير المنفصلة عن الله تعالى على قولهم وذلك يفهم من خلال الأمثلة التي مثل بها، وأما العبارة الثانية التي أطلق فيها القول بأن المفعولات كلها مخلوقة فإنه قصد بالمفعولات أي المفعولات الزائلة عن الله تعالى، والتي يعبر عنها ابن تيمية بالمباينة له المنفصلة عنه ويفهم ذلك من قوله قبل (من زعم أن القرآن فعل الله الزائل عنه) ومن عبارات أخرى.
وبهذا التفسير ينحل التناقض، واعلم أن ابن تيمية يفرق بين المخلوق والحادث، فالمخلوق عنده هو الذي أوجده الله تعالى في خارج ذاته، وأما الحادث فهو الذي أوجده ابن تيمية في ذاته، وهذا الفرق موافق لما ذكره الدارمي هنا في العبارة التي نقلتها أيها الأخ العزيز، وهذا الفرق مشهور عند المتقدمين والمتأخرين من المشبهة والمجسمة على اختلاف فرقهم، ومع اختلافهم في بعض التفاصيل.
هذه هي بعض ملاحظاتي السريعة بلا مراجعة مدققة، بل اعتمدت فيها أولا على نفس العبارة التي نقلتَها أنت في مقالتك. وثانيا على ما أفهمه وأعرفه من طرق المجسمة والمشبهة في نقل وتبرير مقالاتهم. ولهم في ذلك فنون عجيبة أنت عارف بها أيها الأخ العزيز الفاضل.
وإن كان لك أي تعليق فأنا مستعد لسماعه والنظر فيه. وأسأل الله تعالى أن يمنحني بعض الوقت لزيادة التدقيق في ذلك.
والله تعالى الموفق
وليس لنا إلى غير الله تعالى حاجة ولا مذهب